سياسة

عطايا “الطوفان” 

سبتمبر 28, 2024

عطايا “الطوفان” 

لا شك أن معركة طوفان الأقصى أحدثت هزّة عمت أرجاء الدنيا٬ وستحدث تغييراً عميقاً لمنطقتنا والعالم٬ ربنا سنحتاج سنوات لمعرفة أثر هذه العملية المباركة وحجم التغيير الذي قدمته للعالم٬ سواء على المستوى الاستراتيجي وتغيير موازين القوة٬ أو العسكري فيما يتعلق بعلوم الحرب٬ أو التحرري والاجتماعي والديني لشعوب منطقتنا والعالم.


لكن على المستوى الشخصي٬ لا شك أن كل واحد فينا، على الأقل من يقرؤون هذا المقال وأمثالهم، ترك الطوفان شيئاً ما بداخله٬ للتغيير والتأثير والتحرك٬ وهذا من بركات هذه المعركة الأصيلة والمفصلية مع الاحتلال الصهيوني ومن يدعمه شرقاً وغرباً٬ وهذه البذرة الربانية لا بد أن تنبت في صدورنا وعقولنا وأسماعنا وأبصارنا وكل خطوة نمشيها٬ بما ينفعنا وينصر قضيتنا وديننا ويدفع الظلم عن شعبنا وأمتنا ومسرى رسولنا محمد٬ صلى الله عليه وسلم.


وكيف لا يكون ذلك لنا وقد أدخل الطوفان في الإسلام أفواجاً٬ عرباً وعجماً٬ وأعاد للدين أفواجاً من التائهين في هذا الزمن الصعب وهذه الدنيا التي تزل فيها الخطوات وكثير ما يضيع فيها معنى الإنسان والذات٬ لما فيها من شقاء العيش وأمراض وسوءات وشهوات٬ كالنزعة للفردانية وحب التملك والانغماس في الاستهلاك٬ واعتزال قضايا الأمة وهمومها٬ حتى فقدنا إدراك كل ما يدور في محيطنا وأصبحنا منفصلين عن السياق٬ على اعتبار أن “الحرية الفردية” والانعزال عن كل ما حولنا هو أعلى درجات تحقيق الذات وأعلى درجات النجاح.


لكن هذا الطوفان كشف لنا -وما زال- كم كنا في غفلة من حيث ظننا أنفسنا أننا في قمة يقظتنا ونباهتنا٬ وكم كنا أسرى ومقيدين من حيث ظننا أننا أحراراً٬ حيث كُشف الحجاب وانهار الشعور الكاذب بالحرية، والشعور المتوهم بالمنعة النفسية والقوة والثبات٬ وكان كل مشهد من مشاهد الطوفان على مدار عام كامل٬ امتحان عظيم٬ ودرس قاس لم نخبره من قبل.


أعطانا طوفان الأقصى الكثير من الدروس وأعاد تعريف مفاهيم كثيرة لنا كنا غائبين أو مغيبين عنها٬ كالثبات والعزيمة والصبر والتضحية وتحمل المسؤولية٬ ومعنى البذل والعطاء والحرية الحقيقية٬ ومعنى الوجود وغايته٬ ورسوخ المبادئ والعمل لأجلها العمر كله٬ وبذل الدّم والغالي والنفيس في سبيلها٬ وأن الحقوق تنتزع٬ وأن الثارات من هذا المحتل الظالم المفسد في الأرض إيمانٌ نخزّنه في صدورنا٬ وخبزٌ نطعمه كل يوم لأولادنا وأحفادنا إن استطعنا.


قدم لنا طوفان الأقصى الخريطة والمسار بشكل جليّ٬ وهذه لم تأت بثمن هيّن٬ بل بأنهار من الدماء والتضحيات والصبر على البلاء٬ ولكي لا يعم المنجز الجميع وتتفرد غزة وحدها بالألم٬ فلا بد لنا من شد العزائم وشحذ الهمم وبذل كل ما نستطيع وزيادة. فلا نرضى بالقليل أمام هذه التضحيات الكبيرة٬ ولا نركن إلى دنيانا وننعزل في دوائر الأمان أمام هذه الدماء التي لم تجف٬ وليترجم كل هذا الحزن والغضب في الصدور إلى بركان ثائر٬ بدلاً من أن يترجم إلى عجز وكسل وقلة حيلة٬ أو خنوع أمام جبروت هذا العدو اللئيم.


عطايا الطوفان كثيرة٬ لا يسعها مقال أو كتاب٬ لكن فهم معناها والثبات على أمرها والبناء عليه هو الأهم٬ ولا يكون ذلك إلا بجعل كل واحد منا لنفسه سهماً في هذا الطوفان قبل فوات الأوان٬ فمساحات البذل والعطاء كبيرة وعظيمة٬ وأولها وأهمها عدم التولي عن نصرة هذا الطوفان وأهله٬ وعدم اعتياد المشهد مهما طال٬ لأن ديْن غزة في رقابنا كبير وعظيم٬ ونحن أولياء الحق والدم.


ولا شك أننا ما نزال في بداية هذا المخاض العسير٬ ولا تزال هذه القضية العادلة تحتاج منا الكثير٬ فاللهم ثبت القلوب والأقدام وحررنا من ذواتنا٬ واجعل لنا سهماً في هذا الطوفان المبارك٬ واجعله حجة لنا لا علينا٬ واجعلنا من حملة شعلة انبعاث الأمة الجديد والشاهدين على ميلادها٬ وارزقنا الشجاعة لانتزاع أسباب النصر والتمكين بحولك وقوتك.


شارك