سياسة
في اللحظات الأولى لأعظم معركة يخوضها الشعب الفلسطيني في تاريخه منذ 100 عام٬ معركة “طوفان الأقصى” صباح السابع من أكتوبر المجيد٬ كان هناك مشهد لا ينسى٬ وهو مقطع فيديو للحظة السجود الجماعي لقيادة حركة حماس شكراً لله على نجاح عملية رجال المقاومة في كتائب القسام٬ الذين اقتحموا مستوطنات غلاف غزة وأبادوا فرقتها. حينها٬ كانت فرحة الشهيد القائد إسماعيل هنية وهو يقول لرفيقه خالد مشعل “إطلّع يا أبو الوليد٬ الشباب ساحبين جيب إسرائيلي”٬ كفرحة أب فخور بأولاده الذين كبروا على عينه وصنعوا الانجازات العظيمة التي كانت مجرد أحلام أو أفكار قبل زمن بعيد.
أغاظ ذلك المشهد قادة الاحتلال في ذلك اليوم العظيم٬ وقال الإعلام العبري٬ إنه بعد تلك السجدة الجماعية التي أَمّ هنية بها رفاقه٬ “قررت إسرائيل ضرب جميع قادة حماس في الداخل والخارج”٬ فبعد نحو شهرين ذلك اليوم٬ اغتال الاحتلال أحد الرجال الذين ظهروا خلف “أبو العبد” لحظة سجدة الشكر٬ وهو الشهيد الذي سبقه إلى دار الحق٬ الشيخ القائد صالح العاروري.
واليوم٬ يستشهد قائد الطوفان ورجل المنبر والميدان٬ إسماعيل هنية “أبو العبد”٬ ربما في مكان وزمان كانا مفاجئين لكثيرين٬ لكن مسيرة الجهاد الطويلة التي مر بها هذا الرجل منذ نعومة أظفاره لا يليق بها إلا الشهادة.
كيف لا وهو الذي قضى ثلاثة أرباع عمره في مجاهدة هذا العدو٬ منذ أن أبصر على الدنيا ووجد نفسه في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة٬ وقد ذاق مرارات التهجير واللجوء والفقر الذي تسبب به الاحتلال لعائلته المُهجّرة من قرية الجورة بعسقلان٬ كحال عشرات آلاف العائلات الفلسطينية منذ نكبة عام 1948.
وسيرة هذا الرجل العطرة تزخر بالجهاد والاجتهاد٬ فهو الطفل المثابر ورجل المنابر في مخيم الشاطئ منذ أن كان صبياً٬ وهو ابن جماعة الإخوان المسلمين وقائد الكتلة الطلابية في الجامعة الإسلامية٬ ومن صفوة الشباب الذين أسسوا مع أستاذه الشيخ أحمد ياسين حركة حماس٬ إلى جانب شيوخه وأساتذته الآخرين مثل الشيخ محمد حسن شمعة والشيخ خليل القوقة والشيخ محمد بارود وغيرهم.
ومن مقارعة الاحتلال في أزقة المخيم حيث كانت أعين الطفل إسماعيل ترمق العمل الفدائي في زمن الثورة الفلسطينية٬ إلى العمل الطلابي والحركي في مطلع الثمانينيات حيث كان رئيس اتحاد مجلس الطلبة في الجامعة الإسلامية٬ إلى سنوات الأسر المتكرر في سجون الاحتلال٬ والتي تبعها إبعاده هو و416 قيادياً من “حماس” و”الجهاد” إلى مرج الزهور في جنوب لبنان بين عامي 1992-1993 ومحاولات الاغتيال المتكررة خلال سنوات الانتفاضة الثانية وما بعدها٬ عاش “أبو العبد” مسيرة جهاد طويلة٬ صقلت منه قائداً فلسطينياً هو الأكثر جماهيرية وشعبية وكاريزماتية حتى استشهاده في معركة طوفان الأقصى٬ بشهادة العدو قبل الصديق.
وربما أحد الأسباب التي أهلت الشهيد إسماعيل هنية ليكون قائداً بارعاً أحدث نقلات نوعية في تاريخ حركة حماس ومسيرة النضال الفلسطيني برمتها٬ هو أنه كان رئيساً لمكتب الشيخ أحمد ياسين رحمه الله٬ وأميناً لسرّه لسنوات طويلة٬ ولك أن تتخيل معي٬ ماذا يعني أن يكون شاباً نابغاً٬ مرافقاً ملازماً للزعيم الروحي لحركة حماس٬ يتتلمذ على يديه في “دروس خصوصية” ثمينة كل يوم معاني القيادة والصبر والنصر والثبات والجهاد والاستشهاد٬ حيث اختصه الله بهذا الموقع المتقدم في “مدرسة الياسين” العظيمة التي صنعت لنا أجيالاً من القادة والمجاهدين العظام والشهداء الكرام٬ سيُخلّد التاريخ ذكرهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وبعد استشهاد شيخه وأستاذه الياسين٬ ورحيل رفيق دربه في الجهاد والأسر والإبعاد إلى مرج الزهور الدكتور عبد العزيز الرنتيسي خلال الانتفاضة الثانية٬ ظن البعض أن حركة حماس قد انتهت٬ حيث تعرضت قيادة الحركة السياسية والعسكرية لضربات قاسية في وقت قصير٬ في محاولة لاجتثاثها٬ لكن حماس كان مثلها كمثل “شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء”٬ وجاء إسماعيل هنية ليعبر بها في مراحل صعبة ومفصلية٬ أحدث بها تحولات كبيرة بعدما ترأس قائمة “التغيير والإصلاح” التي حصدت أغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني في الانتخابات التشريعية المنظمة مطلع يناير/كانون الثاني 2006، وأصبح رئيساً لأول حكومة فلسطينية منتخبة شكلتها حماس في فبراير/شباط 2006.
وقاد الرجل الشعب الفلسطيني بمراحل صعبة٬ بعدما حارب النظام الدولي حكومته المنتخبة٬ وحوصرت وزارات حكومته من قبل الاحتلال الصهيوني وأجهزة السلطة الفلسطينية٬ التي عرقلت عمل الحكومة الوليدة وحاولت إفشالها منذ أيامها الأولى٬ ولا ننسى مشهد جلوسه على رصيف معبر رفح بعدما مُنع من دخول غزة٬ بعد عودته من جولة دولية في أكتوبر/تشرين الأول 2006.
ومن ثم أقال رئيس السلطة محمود عباس حكومته في 14 يونيو/حزيران 2007 بعدما سيطرت كتائب الشهيد عز الدين القسام، على مراكز الأجهزة الأمنية في القطاع٬ في حسم عسكري حوّل غزة إلى قلعة مقاومة حصينة وخالية من التنسيق مع الاحتلال٬ تعرض القطاع بعدها لحصار شديد استمر 17 عاماً وما يزال٬ حيث واصل هنية لسنوات طويلة رئاسة حكومة غزة وإدارة شؤون القطاع في ظروف صعبة٬ مع حفاظه على الثوابت ورفضه التنازل عن سلاح المقاومة الذي ساومه عليه العالم كله٬ وكان من أبرز عباراته: “لن تسقط القلاع، ولن تخترق الحصون، ولن ينتزعوا منا المواقف، ولن نعترف بإسرائيل”.
ورغم الآلام والحصار في غزة٬ وقمع السلطة لحركة حماس في الضفة واجتثاث أي شكل من أشكال العمل المقاوم٬ حرص هنيّة على فتح الباب أمام “المصالحة الوطنية” مع حركة فتح، وأعلن قبوله التنازل عن رئاسة الحكومة في إطار مصالحة شاملة تكون حكومة وفاق وطني أبرز ثمارها في عام 2014 ٬ حينها هنأ الشهيد إسماعيل هنية الشعب الفلسطيني بتشكيل الحكومة الجديدة قائلاً: “إنني أسلم اليوم الحكومة طواعية وحرصاً على نجاح الوحدة الوطنية والمقاومة بكل أشكالها في المرحلة القادمة”.
لكن مسار السلطة الفلسطينية في التنسيق الكامل مع الاحتلال لم يؤد للتوافق والتكامل مع حماس٬ حيث ظلت الحركة تُحاصر وتصد الحروب البربرية واحدة تلو الأخرى عن قطاع غزة٬ فيما قاد بعدها “أبو العبد” حركة حماس نحو آفاق جديدة بعد ترؤسه للمكتب السياسي في عام 2017 وحتى استشهاده٬ حيث خاضت غزة معركتي “سيف القدس” و”طوفان الأقصى”٬ ودافعت عن الأقصى وحملت هم الأسرى٬ وقدمت قادتها قبل الجند شهداء.
وقدم شهيدنا “أبو العبد” العشرات من أفراد عائلته شهداء خلال هذه المعركة٬ حيث حاول الاحتلال الضغط عليه لتقديم تنازلات في المفاوضات٬ حيث اغتال عدداً من أحفاده في بداية الحرب٬ ثم اغتال 3 من أبنائه يوم عيد الفطر في 10 أبريل/نيسان 2024 كانوا على متن سيارة مع 5 من أبنائهم٬ لأداء صلة الرحم٬
وأعلن حينها جيش الاحتلال متفاخراً أنه قتل أبناء هنية بالتخطيط مع جهاز (الشاباك).
لكن الرجل الصابر الثابت الحافظ لكتاب الله٬ وصاحب الابتلاءات التي صنعت منه قائداً شجاعاً٬ رد وبرباطة جأش على مقتل أبنائه وأحفاده في يوم العيد حيث كان يزور جرحى أبناء شعبه في أحد مشافي الدوحة: “الله يسهل عليهم.. الله يسهل عليهم”، ثم مشى خطوات، وبعدما تحدث أحدهم عن إلغاء جولة زيارة الجرحى، فأصر على استكمالها٬ وقال عبارته الشهيرة: “منكمل”.
رحل أبو العبد، رحل الجبل الأشم ابن مخيم الشاطئ٬ وصوته العذب وهو ينشد: “ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي”٬ يرن في أسماعنا٬ نعم عرف دربه وطريقه المحفوف بالشوك، والموت الذي كان يرقص لها في كل مرة٬ ونال الرجل ما أراد وما عاش لأجله.
رحل أبو العبد والخسارة كبيرة وفادحة٬ لكنه ترك خلفه رجالاً يحسنون الثأر٬ ويؤمنون بما آمن به منذ زمن بعيد٬ تحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها٬ لا يخشون ظلم الاحتلال وبطشه وجبروته٬ ولا يضرهم من خذلهم في الشدة قبل الرخاء٬ وحتماً كما كانت دماء من سبقوه من قادة المقاومة مثل الياسين والرنتيسي والمقادمة وصلاح شحادة وغيرهم٬ لعنة على الاحتلال٬ وبداية زوال أركانه٬ وقل عسى أن يكون قريباً.