آراء

كيف نُصاب بعدوى غزّة؟!

سبتمبر 24, 2024

كيف نُصاب بعدوى غزّة؟!

أكّد العلماء أنّ الحِمار الوحشيّ بإمكانه قتل أسد بالغ وكسر فكّ تمساح مفترس برفسة واحدة تبلغ قوّتها ٣٠٠٠ رطل، فما بالكم لو اتحد القطيع بأكمله؟ هذا ما جعل العلماء يؤكّدون أنّ تمكّن الأَسَد من اصطياد فريسته رغم غلبة العدد والقوة، هو أنّهم مبرمجون على الخوف من الأسد دون تفكير، ولتغيير هذه البرمجة الجينية أو الغريزية، سيحتاجون لكسر حاجز الخوف والخروج عن القاعدة لأجيال عدّة، والانعزال عن بقيّة القطعان كي لا ينتقل إليها “عدوى الخوف”.

 

نعم، نحن لسنا بقطيع، وعدوّنا الفاشي المجرم الذي تمكّن منّا وافترس غزّة على مرأى منا بتغطية عالية الجودة ليس أسدًا، فحاشا للأسد من هكذا تشبيه! ولكنّنا بخضوعنا الكامل هذا جعلنا من أنفسنا بهائم سُلبت منها الإرادة والقدرة على التفكير مما حوّلنا إلى {غثاء كغثاء السّيل} معتمدين بشكل مخيف على حكوماتنا وما يُسمّونهم بولاة الأمر ليقوموا به بدلاً عنّا. هدف هذا المقال ليس التذكير بهذا الخضوع، فقد تمّ تناول ذلك في المقال السابق: ‘الرأسمالية وخذلان غزة’، لكنّ الهدف هنا هو استعراض حلول عمليّة وواقعية على مستوى الفرد للخروج بعدها إلى فضاء التحرّك المجتمعي والشعبي. لكن لنفعل ذلك، وجب علينا تمحيص النّظر إلى حال سيّدة عجوز بلغت حكمتها السّماء، لنسألها عن سرّ صمودها الأبيّ في وجه أبشع إبادة حصلت في التاريخ المعاصر.


من مسبّبات الصّمود تخرج رسائل للأمّة

 

غزة أعدت العدة، وما وصلت إليه من درجات غير مسبوقة من الصمود ليس وليد هذا العدوان، ولا الذي قبله، فهذا الشعب الذي ترونه على الشاشات يهلل ويحمد الله بعد مصائب تشيب لها الولدان تمّ إعداده جيّدًا، وبعض الفضل في ذلك يعود للتجارب الصعبة والحروب التي مرّ بها ومنها وأهمّها هو الحصار. ألم أقل أنّ القطيع يجب أن يعيش في عزلة عن باقي القطعان لألّا يصاب بعدوى “الخوف الفطري” وفي حالنا سأسمّيه “ثقافة الليبرالية”؟ ربما كانت هذه الفائدة الوحيدة لهذا الحصار الخانق الذي طوّق غزّة لثمانية عشر عامًا متتالية، فسبحان الذي يهيّئ الأسباب للنصر القادم! هذا الحصار جعل غزّة تلتفّ حول نفسها، تعدّها جيّدًا، تسدّ الثغور وتقي نفسها من دنس العولمة والرأسمالية، تشدّ على دينها ابتداءً من الفرد وخروجًا إلى فضاء المجتمع. ومن هنا يمكننا أن نستقي من هذه السّيدة العجوز الحكيمة، عِبر نعمل بها، وطريقًا نسير فيه حتّى نصاب نحن “بعدوى غزّة”.


الفرد في غزّة، أمّة

 

قَالَ الله تَعَالَى: “فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ” الذاريات:50. قد نستصعبها حينما نقول “الأمّة بعيدة عن الله” لكنّ الواقع هو “إنّ إِبراهيمَ كَانَ أمّةً” وأنت أيضًا أمّة، فالخطوة الأولى تبدأ بك. شيء لا يختلف عليه اثنين هو أنّ غزّة أعدّت مجتمعًا كاملاً من خلال العمل على الجيل الصاعد فيها. فالتعليم فيها تربية، والتربية فيها محمّديّة عمادها القرآن. مناهجها الدراسية مليئة بالعتاد الذي يحتاجه الجيل لمواجهة عصور الفتن هذه، وهذا تحديدًا ما نجحت به غزّة وفشلت به بقيّة دول العالم العربي (إلا من رحم رّبي). فبالسنوات الأخيرة، باتت الدّول تتسابق على مناهج “الإنترناشيونال” مسلّمين بذلك أجيالهم الصاعدة للاستعمار الفكري ومفرمة الرأسمالية على طبق من ذهب دون أدنى مقاومة، مهمّشين بذلك الثقافة الإسلاميّة التي هي جزء لا يتجزّأ من أيّ علم دنيوي متحججين بادعاءات الغرب الكاذبة بأنّ بعض نصوصها تحرّض على الإرهاب. فباتت أجيالنا الصاعدة ممسوخة وتائهة، هويّتها بلا ملامح، منزوعة الإرادة وخاضعة خضوع تام. لن أخوض بمسألة المناهج الدراسيّة “الممنهجة” التي أعتبرها جزء من خطّة العولمة والرأسمالية والغزو الفكري، لكن وجب المرور عليها لأهمّيتها.

 

تحرّر الفرد من تحرّر المجتمع

 

سأستخدم تعبير ” تحرير الفرد” لأنّه أكثر من مجرّد إصلاح، وسأبدأ بحديث الرّسول عليه أفضل الصلاة والتسليم “إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلا لا ينزعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم.” رواه أحمد وأبو داوود. ربّما لم يكن في ذاك الزمان مصطلح الرأسمالية أو مصطلح العلمانية، لكن رسولنا الكريم لخص الأمر بوضوح ودقّة. ولو رجعنا لبقية أحاديثه في نفس الموضوع، لوجدنا العلّة وتشخيصها ودواؤها، كما الحال في كتاب الله سبحانه وتعالى، كمثال قوله سبحانه:}يأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَا لَكُمۡ إِذَا قِیلَ لَكُمُ ٱنفِرُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِیتُم بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا مِنَ ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ فَمَا مَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا قَلِیلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُوا۟ یُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِیمًا وَیَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَیۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّوهُ شَیۡـئًاۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍقَدِیرٌ} (التوبة 39). فكما ترون، سبب خوفنا من مناصرة الحقّ هو خوفنا على مستقبلنا ومستقبل أولادنا (الفردية)، وهذا نابع من اعتقادنا الخاطىء أنّ ما يؤمّن المستقبل هو هذه الماديات الدنيوية، فتعلقنا بها دون أن نشعر، ونسينا أنّ الضّامن هو الله والمستقبل بيده ووحده هو من يُدبّر الأمر. ونسينا أيضًا أنّ ابتغاء الضمان والعزّة من غيره مذلّة وأنّ النصر لا يأتي إلّا من نصرة الدين (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ یَنصُرۡكُمۡ وَیُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ) محمد ٧، إذًا المعادلة بسيطة: لن ننتقل إلى التحرّر والتحرّك المجتمعي حتّى يصلح المجتمع، ولن يعود مجتمع بأكمله لله حتّى نعود فردًا فردًا إليه سبحانه وتعالى.

 

كيف أتحرّر كفرد؟

 

إذن، لتنصر إخوتك في السودان، وغزّة واليمن وسوريا والروهنجيا.. الخ عد أنت إلى الله وأصلح من نفسك. ابدأ بصلواتك الخمس أوّلاً، ثمّ السّنن والنوافل، وارفق ذلك بقراءة ورد من القرآن بشكلٍ يوميّ. افهم ذلك الورد وتأمله من خلال دراسة تفسيره من كتب التفسير المعاصر تحديدًا، وشيئًا فشيئًا ستجد أنّك ختمت فهم القرآن كاملاً بعمل يوميّ بسيط. اقرأ في سيرة نبيّنا عليه الصلاة والسلام وافهم أحاديثه الصحاح، فقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي» (حسنه الألباني في منزلة السنة:13). وهكذا ستجبر نواقصك وترتق ثقوب إيمانك ليصبح صلبًا منيعًا أمام الفِتن، وهنا يبدأ التغيير الحقيقي. 


فبعد أن تتثقّف حقًّا بالدين ستعلم أين نحن ومستقبلنا من أحداث آخر الزمان العظام. هذا الإدراك وحده هو ما سيعيد ترتيب أولويّاتك ويحوّلك إلى إنسان زاهد لا تريد سوى النّجاة من هذه الدّنيا الفانية من خلال حمل رسالة الإسلام. ومن هنا، ستجتاحك رغبة ملحّة بالتأثير على محيطك الضيّق من أولاد وأقارب وجيران، ثمّ محيطك الأوسع فالأوسع، فتبدأ عدوى غزّة بالانتشار للمجتمع. وهكذا نخرج من ضيق الفرديّة التي قولبتنا عليها العولمة وثقافة الرأسمالية، فنزهد وننبذ الاستهلاكيّة العمياء لنتحرّر من استعمار الغرب الفكري والاقتصاديّ لنا.

 

اقتربنا من الوجهة!

 

إن نجحنا فعلاً كأفراد بإصلاح وتحرير المجتمع، ولو جزء منه، فهذا يعني أنّ الأمّ صالحة وستربّي أبناء صالحين، وأنّ المعلّم صالح يخاف على مصلحة الأجيال فلا يُقصّر، فينشئ جيلاً أقرب إلى الله، وأنّ الوزير صالح، ولن يرتشي ليتخلّى عن مصلحة الجماعة، وأنّ وزارة التربية والتعليم فيها أناس صالحون سيخافون على أجيالنا من الضياع وعلى هويّة الأمة من التشويه فيضعون القرآن والسنّة والتاريخ الإسلامي عمادًا لكلّ العلوم، وأنّ وزير الاقتصاد صالح فيعمل على الاكتفاء والاستغناء عن الغرب ليحرّر الأمّة من الغزو الاقتصادي، وهكذا…


الاستغناء والاكتفاء

 

غزّة استغنت عن كلّ شيء واكتفت بالله سبحانه وتعالى وحده. فبعد أن عملـت السـلطات الإسرائيلية علـى ترسـيخ سياسـة عـزل قطـاع غـزة عن باقي العالم وفرضت عقوبات مسّت على نحو مباشر بالحقوق الأساسية للسكان، مما شمل فرض قيود مشددة على دخول الوقود والبضائع وحركة الأفراد من وإلى القطاع. إلى جانب التحكم في كمية ونوعية البضائع والمواد التي تدخل إلى قطاع غزة وحظر المئات منها، ما تسبب بحالة ركود اقتصادي شامل، وارتفاع حاد في معدلات الفقر والبطالة في القطاع. ولكن، لنكون منصفين، كان لهذا كلّه، إضافةً إلى حصيلة الخبرات من الحروب المتتالية التي خاضتها، دورٌ كبير في تمهيد الطريق إلى استغناء غزّة عن العالم، وتدريب شعبها على التكيّف والاعتماد على المصادر والإمكانيّات المحلّية ليصنعوا ويخترعوا ويحوّلوا من اللاشيء إلى أشياء. ما علاقة هذا بخنوع الأمة وتخاذلها؟ إنّ الاتكالية في الصناعات جزء من الاستعمار الاقتصادي لنا، وأيّ استعمار غير مسلّح سيحمل معه تبعات ثقافية واجتماعية وسياسية. 


فالأمر واضح وبسيط ولا يحتاج لكلمات معقدّة أو شرح من كتب الاقتصاد، فإن تأمّلنا ما حصل مؤخرًا في لبنان، وكيف أدخلت “حصان طروادة” إلى حصنها المنيع وشرّعت له الأبواب بأيديها دون انتباه، فدفعت الضحايا ثمن هذا الاتّكال على الغرب، سنعرف حقًّا إلى أيّ مدى يمكن أن تصل هذه التبعات، وما هو هدف هذا الاستعمار الاقتصادي الخبيث. فإن كنّا أمّة مكتفية مستغنية بصناعاتها وانتاجها لما حصل ما حصل والله تعالى أعلم. فغزّة استغنت واكتفت بطرق شتّى، ابتداءً بالمحاصيل الزراعية، قبل أن يدمّرها العدوان، لسدّ الحاجة الغذائية وانتهاءً بتصنيع السّلاح! وإن عجزوا، فستجدهم يعودون للطرق البدائية وكلّها بالنهاية مجدية، فهم خير مثال للمثل الشعبي “الحاجة أم الاختراع”. ربطًا بهدف المقال؛ إن أعاد مجتمع بأكمله ترتيب أولويّاته، ليضع خطّة نحو التحرّر الكامل من الاستعباد الغربيّ لنا، ستكون أولى أهدافها هي الاستغناء الكامل في كافّة المجالات ومن أهمّها الاقتصاديّة.

 

عودةً إلى ذلك القطيع، لنتأمّل قليلاً؛ لو اكتشف فعلاً أين تكمن قوّته، وعرف أيضًا أين يكمن ضعف الأسد (مستحيل علميًا أن يجاري سرعة الحمار الوحشي مثلاً)، أسيموت بذلك الأسد جوعًا؟


شارك

مقالات ذات صلة