آراء

“هاو هاو” العربي، عندما يرفع المذيع راية العدو

نوفمبر 16, 2024

“هاو هاو” العربي، عندما يرفع المذيع راية العدو


بصوته “الساخر” ونبرته “الدعائية” أخذ يصيح: “يا أهل بريطانيا، هل تعتقدون حقاً أن حكومتكم تستطيع حمايتكم من القوة الألمانية؟ أنتم تُخدعون بأوهام النصر، ألمانيا تمتلك القوة التي لن تستطيع بريطانيا الوقوف أمامها.. قريباً ستدركون أن القادة الذين تثقون بهم قد جرّوكم نحو الخراب”.


من يهدد البريطانيين بهذه الكلمات هو الإعلامي البريطاني ويليام جويس، الشهير بـ “اللورد هاو هاو”، والذي اشتهر خلال الحرب العالمية الثانية بانحيازه للنازيين ضد وطنه، وكان يستهدف البريطانيين عبر برنامجه الإذاعي، لزرع عقيدة الاستسلام والخوف والانكسار أمام الألمان.


يحكي الصحفي البريطاني نايجل فارندال في كتابه “هاو-هاو: مأساة ويليام ومارغريت جويس”، الذي يؤرخ قصة اللورد، أنه وعلى الرغم من أسلوب الأخير المثير للاشمئزاز بالنسبة للكثيرين في بريطانيا، فإن برنامجه نجح في جذب اهتمام الجمهور البريطاني بسبب طابعه الاستفزازي، ما أسهم في شهرته.


وطبقًا للكتاب، فقد أُطلق على جويس وصف “هاو هاو” لأن نبرة صوته كانت قريبة من “الصياح” وتشبه نباح الكلاب. وكان البريطانيون يشيرون إلى أي مذيع بريطاني يروج للنازيين بأنه “هاو هاو”، لكن جويس كان “الهاو هاو” الأشهر على الإطلاق.


عزيزي القارئ، عد للمقطع الأول بداية المقال، واقرأه مجددًا، ضع كلمة “فلسطين” بدلًا من كلمة “بريطانيا” و”إسرائيل” بدلًا من “ألمانيا”، واستحضر القنوات “العربية” والإعلاميين “العرب” الذين يتداولون هذا الكلام، بالصياح أحيانًا عبر برامجهم، أو بالكتابة على صفحاتهم المليونية على منصات التواصل الإجتماعي. هؤلاء ليسوا بدعًا من القول، ولم يخترعوا آليات الخيانة والسعار النباحي.


إذاعة برلين النازية “العربية”


مع اشتداد ضراوة الحرب العالمية الثانية، سعى جوزف غوبلز، وزير دعاية هتلر، إلى ترويج أفكار النازية وترسيخ هيبتها، مروجًا لفكرة أن الدبابة الألمانية لا تُهزم، وأن كل من يتصدى لها مصيره الموت.


ومع مرور الوقت، ازداد اهتمام النازيين بالمشروع الإعلامي، وأسس غوبلز أقسامًا للغات المختلفة في إذاعة برلين، خاصة لغات الدول التي يحاربونها، فأنشأوا القسم الفرنسي والروسي والانجليزي، وكان أشهرهم القسم الأخير تحت قيادة “اللورد سيئ الذكر”.


يحكي بيتر بوميرانتسيف في كتابه “كيفية الانتصار في حرب المعلومات: رجل الدعاية الذي هزم هتلر” أن هذه الإذاعة اعتمدت على “الكذب والتضليل” ببث الأخبار الزائفة عن انتصارات الألمان طوال الوقت، والسخرية والتهكم من “قيادات الدول المعادية لألمانيا”، بالإضافة للاستمالة العاطفية واللعب على مشاعر الشعوب من خلال استغلال معاناتهم الاقتصادية والاجتماعية لشحنهم ضد حكوماتهم، وأخيرًا تشويه الحقائق بشكل عام من خلال تحريف الأحداث بما يتماشى مع السردية النازية.


ولكن غوبلز واجه معضلة: كيف سيصدق المستمع هذه الإذاعة رغم كونها معادية؟ يستطرد الكاتب أن الإذاعة اعتمدت على ٣ نقاط رئيسية لحل هذه الإشكالية:


  • الإيحاء بالمصداقية:

كانت الإذاعة تحرص على استخدام لهجة محايدة في البداية، ومن ثم تطعيمها تدريجيًا بالرسائل المزيفة والدعائية.


  • السخرية والتهكم:

لتقريب المشاهد من المذيع، ونشر روح التشكيك في قدرة جيوش الدول المعادية لألمانيا على مواجهة النازيين.


  • اللغة البسيطة والجذابة:

صياغة الرسائل الدعائية بأسلوب يتناسب مع المستمعين العاديين، من خلال الكوميديا السوداء، ودمج الرسائل بشكل ساخر مع النكات، بما يسمح بالوصول لعقل “المستمع البسيط”، والسيطرة عليه.


حيل نازية بسيطة، استحضرتها قنوات عربية خلال الحرب الحالية، في محاولة لاستنساخ تجربة غوبلز واللورد هاو هاو، بالتسطيح والتبسيط أحيانًا، والتخويف والترهيب أحيانًا أخرى، مع بعض التلفيق والبهارات، وحركات السيرك.


الـ”هاو هاو” المُعَمَّم


خلال الفترة الماضية، ظهر معمم شيعي يمارس هواية التنجيم على “قناة عربية” مع دمجها بأسلوب كوميدي “زاعق”، مما يدفع المذيعة التي تخرج معه دوريًا لمحاولة لجم تنجيمه المتسارع، وربما فلترته، كي تحافظ على وقار الزي الذي يرتديه، ولإطالة فترة صلاحيته أطول وقت ممكن. لكن المعمم  “قطار” لا يتوقف عن طرح أمنياته كغيبيات، وسط تصفيق الحالمين الذين يشاركونه خيالاته.


وبعد نجاح تجربة المعمم، ظهر معمم آخر على قناة لبنانية، لكنه لم يلق نجاح المعمم الأول، فكما كان “اللورد هاو هاو” واحدًا، رغم أن البريطانيين أطلقوا اللقب على كل إعلامي بريطاني انحاز للنازيين، فـ”الهاو هاو المعمم” واحد، وإن كثرت عمامات من يعتبرون أنفسهم “رجال دين” على القنوات العربية.


المذيع هاو هاو 


كتب ماركوس كيكيرو، الفيلسوف الروماني، ذات مرة أنه “من السهل محاربة العدو الواقف على بوابات المدينة، لأنه معروف ويحمل رايته بشكل واضح، لكن الأصعب هو مواجهة العدو الذي يعيش بيننا، يتحدث بلساننا، ويتظاهر بأنه مثلنا، بينما يزرع بذور الشك والخيانة في قلوب الناس”.


لذلك ليست صدمة أن تعزف الشقيقات العربيات نظيرات “إذاعة برلين”، على ذات الرسائل الإعلامية التي تخرج من المنصات الإسرائيلية الموجهة للعرب، لكن الصادم هنا عدد “لوردات الهاو هاو” الذي يعملون في وسائل إعلام مناصرة للقضايا العادلة.


يعيدون إنتاج “ويليام جويس” بالهمز واللمز تارة، وتوزيع البقلاوة مع كل ضربة لإسرائيل تارة أخرى، مع الصمت علنًا والبكاء سرًا مع كل مَصاب لها، بينما يدمجون هذا الخليط بالكوميديا السوداء والنبرة الدعائية والصوت المرتفع. هم ينتهجون كل هذا وهم يدّعون الحياد والموضوعية، تمامًا كما كان يفعل “الهاو هاو” الأول.



شارك

مقالات ذات صلة