آراء

ليس ثأرهم.. إنه ثأرك وحدك

سبتمبر 14, 2024

ليس ثأرهم.. إنه ثأرك وحدك


وسط كثبان الرمال التي لاتنتهي، سار محمد صلاح خمسة كيلومترات، حاملًا حقيبة لا تحتوى إلا على سكين وبندقية كلاشينكوف “مهترئة” بالإضافة إلى ٦ أمشاط من الذخيرة. وصل إلى نقطة محددة من الأسلاك الشائكة استطاع أن يفتح فيها طريقًا عبر سكينته، وبعد عبوره الحدود داهم جنديين إسرائيليين داخل نقطة عسكرية وقتلهما قبل أن يفكرا في إطلاق النار من هول الصدمة، بعد ذلك استكمل رحلته في صحراء النقب، ونصب كمينًا بالقرب من منطقة صخرية في انتظار القوات التي كان يتوقع لها أن تصل، وبمجرد قدومها، استطاع قنص جندي ثالث، قالت التحقيقات الإسرائيلية إن محمد أطلق النار على الوضع الفردي “القنص” واستطاع قتل هذا الجندي بطلقة واحدة في الرأس من مسافة تقدر ب ٢٠٠ متر، وهي معجزة على مستويين، الأول لتدني التدريب الذي اجتازه صلاح بحكم أنه من “جنود الأمن المركزي” وليس من الوحدات القتالية، والثاني لعدم كفاءة بندقيته لعمليات القنص، قُتل محمد نهاية المطاف، قالت السلطات المصرية في روايتها عن هذه الواقعة في بيان مقتضب: “إن جنديًا مصريًا قُتل أثناء مطاردته لتجار مخدرات حاولوا اجتياز الحدود”.

 

يا رجالة يا مصريين.. فين النخوة وفين الدين


بعيدًا عن الرمال وعن الحدود، في يناير ٢٠٢٤، وبعد عدة أشهر من صمت مخزٍ عم شوارع القاهرة، المدينة التي اعتادت على التظاهر إثر أي عملية عسكرية إسرائيلية كأضعف الإيمان.


وفي أشد اللحظات حاجة لتظاهرها، دخلت المدينة في حالة من الصمت الإجباري أو الاختياري، كثرٌ قالوا إنها عصا الأمن، آخرون تحدثوا أن أهل القاهرة لم يعودوا كما كانوا. عصر يوم عادي، خرجت سيدة عجوز وقفت وحيدة حاملة علم فلسطين، وسط شارع مزدحم بمنطقة الدقي الحيوية القريبة من ميدان التحرير، هتفت للمارة وللسيارات “يا رجالة يا مصريين.. فين النخوة وفين الدين”، لم يشاركها أحد المارة الذين اكتفوا بإكمال مسيرهم مسرعين، خوفًا من أن يتم اعتبارهم متضامنين معها، أحد الواقفين التقط لها مقطعًا وهي ترتجل الهتاف وملامحها تنتظر أن يتشجع أحد العابرين ويقف معها، استمرت لبعض الوقت، حتى أوقفتها دورية شرطة جاءت مسرعة، قال شهود عيان إن السيدة بخير وإن الشرطة طلبت منها الانصراف فورًا أو سيتم إلقاء القبض عليها، انسحبت السيدة وعاد المارة إلى ذويهم بقصتها.


محمد عبد الجواد مصري آخر، لم يكن محظوظًا كحال السيدة، وقف عبد الجواد فوق لوحة إعلانية ضخمة في ميدان سيدي جابر المكتظ بمدينة الإسكندرية، فوجئ المارة بمحمد الذي يعمل “أمين شرطة” يخلع ملابسه الرسمية ويلقيها من الأعلى، رافعًا علم فلسطين هاتفًا لها وضد الرئيس المصري الذي صرخ محمد أنه السبب في إسكات البلاد عن الفعل وتغييبها. فورًا ظهرت دوريات الشرطة، أنزلوه بالقوة من أعلى اللوحة الإعلانية، وضربوه في عرض الشارع قبل أن يختفي محمد قسرًا ليظهر بعدها بفترة وما زال في السجن رفقة ١٠٠ مصري آخرين حتى كتابة هذه الكلمات. شقيق محمد قال لإحدى الصحف المحلية إنه لم يكن منضويًا في أي تنظيم سياسي، وإنه لم يشارك قط في أي مظاهرة، ولكنه منذ بداية الحرب كان يبكي وهو يتابع المجازر يوميًا على شاشة التلفاز فلم يتمالك نفسه وفعل ما فعل.


الواحد ب ٣


في صباح الأحد الأول من سبتمبر الجاري، توجه مهند  العسود الذي يصفه جيرانه أنه ميسور الحال يمتلك سيارة حديثة ويسكن فيلا، إلى منطقة تراقوميا “غرب الخليل” مهاجمًا دورية شرطة إسرائيلية ليقتل ٣ من أفرادها فورًا وبأقل عدد من الرصاصات، طلب الحماية من عناصر قوات الأمن الفلسطينية، الذين كان ينتمي لهم يومًا من الأيام قبل استقالته، امتنعوا عن ذلك، فلجأ إلى منزل مهجور، قبل أن تحاصره قوات الاحتلال، قال شهود عيان إن وحدات الجيش الخاصة اشتبكت مع مهند لبعض الوقت، وفي نهاية الاشتباك، أطلقوا صاروخًا محمولًا على الكتف لتنتهي قصته، الجيش قام بـ”اعتقال” جثمانه، وبعد الواقعة تجمهر عشرات الشباب في مكان الاشتباك، جمعوا بقايا أشلاء العسود من بين أنقاض المكان الذي شهد نهاية الفصل من القصة.


بعد هذا النهار ب ١٥ يومًا فقط، استيقظ السائق ماهر الجازي متجهًا لمعبر الكرامة، كالعادة شاهد حراس الأمن الإسرائيليين، لهم ذات الوجوه التي يشاهدها في نشرات الأخبار، يتعاملون بذات الصلف، ويرفعون ذات العلم الذي تُسكب كل الدماء تحت ساريته، بمجرد الاقتراب منهم، أخرج ماهر مسدسه وأطلق ٣ رصاصات، خدمته العسكرية السابقة أسعفته أن تأخذ كل طلقة مجراها، خرج الخبر العاجل

بعد أقل من ساعة مؤكدًا مقتل ٣ حراس أمن إسرائيليين ب ٣ رصاصات من مسدس سائق أردني، قال شقيقه: إن محركه الوحيد كان الغضب للأطفال الذين تقتلهم إسرائيل من ١١ شهرًا، انتشرت وصية لماهر ختمها قائلًا: “إخوتي العرب إن لم يكن لكم دين، فليكم فيكم غيرة ونخوة”، قبل أن ينفي شقيقه صحة هذه الوصية.


إنه ثأرك وحدك..


عندما كتب أمل دنقل قصيدته الشهيرة “لا تصالح” موجهًا خطابه هنا للفرد، كان عليمًا وحكيمًا أن الجماعة ليست في موطن الفعل، وأن العبء فردي، والفعل غالبًا سيكون فرديًا، لكنه أراد التخفيف عن كاهل الفرد، مشقة السير وحيدًا في طريق “الثأر” فكتب “إنه ليس ثأرك وحدك، لكنه ثأر جيلٍ فجيلْ” موحيًا وكأن هناك من يشاركه، لكن ليس الآن.


مرت الأجيال، وغاب الفعل المنظم. كما الماضي، لم تحضر الدولة أو الجيش العربي إلا في زاوية الإدانة، ولكن حضر كلاشنكوف المصري محمد صلاح، وإم ١٦ الفلسطيني مهند العسود، ومسدس الأردني ماهر الغازي، وعقيرة محمد عبد الجواد الذي لا نعلم عن مصيره شيئًا كحال السيدة التي هتفت بحثًا عن “نخوة الرجالة المصريين”.


أمل دنقل الذي ربت على كتف الفرد في معركته الثأرية، شرح أكثر لماذا لا يجب أن ينتظر العربي شيئًا من الدولة والجيش، فكتب:


إن المدافع التي تصطف على الحدود في الصحاري

لاتطلق النيران، إلا حين تصطف للوراء

إن الرصاصة التي ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء

لا تقتل الأعداء.

لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارًا.


ورفع الصوت يعني السباحة خارج السرب، لهذا ستقول السلطات في مصر إن محمد صلاح كان يطارد تجار مخدرات، وسيجبرون أهله على دفنه في جنح الليل، وسينكلون بعبد الجواد الذي هتف وحيدًا، وسترفض الأجهزة الأمنية الفلسطينية حماية مهند العسود، كما أن ماهر الغازي لن يلقى التأبين الذي يستحقه، إحياء سيرة هؤلاء الفرديين الذين عرفوا أنه ثأرهم وحدهم ونفي صفة المجهول عنهم، هو تذكير بهوان الدول والجيوش التي تحدث عنها دنقل، ربما لهذا السبب نستمع كثيرًا لأخبار عاجلة من مصر تتحدث عن ” أنشطة جديدة لتجار المخدرات، تتضمن عمليات دهس وإطلاق نار على جنود إسرائيليين” والبقية تأتي.


شارك