أدب
كان عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتّاب، سيد تغلب وفارسها وشاعرها. وقد حاز السيادة من كل طرف: فأبوه كلثوم بن مالك هو أفرس العرب، وأمه ليلى بنت مهلهل، وجده مهلهل بن ربيعة سيد تغلب أخو كليب بن ربيعة، سيدُ وائل.
لما وُلدت ليلى، أمر أبوها مهلهل أمها أن تقتلها، فتظاهرت الأم بتنفيذ أمره، ولما نام مهلهل هتف به هاتف يقول:
كم من فتى يؤمل – وسيد شمردل وعُدة لا تجهل – في بطن بنت مهلهل
حين استيقظ مهلهل سأل زوجته عن البنت فقالت له قتلتها، فقال كلا وإله وربيعة، فأخبرته أنها خبأتها، فأمرها أن تحسن غذاءها وتربيتها. فلما كبرت تزوجها كلثوم بن مالك، ولما حملت بعمرو، أتاها آت في المنام وقال لها:
يا لك ليلى من ولد – يقدم إقدام الأسد
من جُشَم فيه العدد – أقول قولا لا فَنَدْ
ولما ولد عمرو وبلغ عاما، أتاها في المنام آت وقال لها:
إني زعيم لك أمَّ عمرو – بماجد الجَد كريم النَّجْرِ
يسودهم في خمسة وعشرِ
فكان كما قال، ساد قومه وهو ابن خمس عشرة سنة.
عمرو بن كلثوم هو أحد أصحاب المعلقات السبع، فمعلقته هي من أشهر القصائد. وقصتها أن بكرا وتغلب، كان سيجري بينهما قتال شديد، سببه أن بكرا منعت الماء عن 70 رجلا من تغلب فماتوا عطشا، فتجهزت تغلب لقتال بكر وتأهبت بكر كذلك للقتال، لكن الحكماء وذوي الحلوم من الطرفين رأوا أن يتصالح الجمع ويحتكموا إلى طرف ثالث محايد، فرضوا جميعا بأن يحتكموا إلى عمرو بن هند ملك الحيرة.
كان عمرو بن هند ملكا عظيما، واسمه عمرو بن المنذر بن ماء السماء، لكنه كان ينسب لأمه هند.
كان عمرو بن هند يميل لتغلب، فاشترط أن تعطيه بكر 70 رجلا منها يمسكهم عنده، فإذا كان الحق مع تغلب أعطاهم البكريين، وإن كان الحق مع بكر رد عليهم رجالهم فقبلت بكر بهذا الشرط. تغلب قدمت سيدها عمرو بن كلثوم صاحبنا، وقدمت بكر الحارث بن حِلِّزة اليشكري، فرافع عمرو بن كلثوم بقصيدته التي هي المعلقة:
ألا هبي بصحنكِ فاصبَحينا – ولا تبقي خمور الأندرينا
وهذه القصيدة طاش فيها عمرو بن كلثوم طيشا كبيرا ولم يراع فيها مقام الملك، فبالغ في الفخر حتى أغضب الملك، يقول فيها مثلا:
وأيامٍ لنا غر طوال – عصينا الملك فيها أن ندينا
يفاخر بتمرد تغلب على الملك،
ويقول فيها أيضا متحديا الملك:
وقد علم القبائل من معد – إذا قُبب بأبطَحِها بُنينا
بأنا المطعمون إذا قدَرنا – وأنا المهلكون إذا ابتلينا
وأنا الآخذون لما أردنا – وأنا النازلون بحيث شينا
وأنا العاصمون إذا أُطعنا – وأنا العارمون إذا عُصينا
ونشرب إن وردنا الماء صفوا – ويشرب غيرنا كَدِرا وطينا.
غضب الملك من قصيدة عمرو بن كلثوم وحدّتِها.
ثم تقدم الحارث بن حلزة اليشكرس ليرافع عن بكر، وأنشد قصيدته التي هي أيضا من المعلقات:
آذنتنا ببينها أسماءُ – رُبَّ ثاوٍ يُمل منه الثواء
وكان كيسا فيها واحترم مكانة الملك، فأعجب عمرو بن هند بقصيدة الحارث بن حلِّزة وحكم لبكر على تغلب، فغضب عمرو بن كلثوم وانصرف وجعل ينشد معلقته في المواسم والأسواق وذاع أمرها في العرب.
ومعلقته هذه فضلا عن أنها من القصائد المنتخبة والمقدمة، لها مكانة عظيمة عند تغلب بالخصوص، فيحفظونها ويتناشدونها في مجالسهم ويكثرون التمثل بأبياتها، حتى عرض بهم أحد الشعراء فيقول:
ألهى بني تغلبٍ عن كل مكرمة – قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبدا مذ كان أولُهم – يا للرجال لشعر غير مسؤومِ
يُضرب بعمرو بن كلثوم المثل في الفتك، فهو الذي فتك بعمرو بن هند. وخلاصة القصة أن الملك عمرو بن هند سأل حاشيته: هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟ (يريد أن يعرف هل توجد في العرب امرأة أعز من أن تخدم أمه هندا). أجاب جُلّسُه: نعم أم عمرو بن كلثوم، فأبوها مهلهل، وعمها كليب أعز العرب، وبعلها كلثوم أفرس العرب، وابنها عمرو وهو سيد قومه.
رأى الملك عمرو بن هند هذا تحديا، فأرسل لعمرو بن كلثوم يطلب زيارته، وطلب منه أيضا أن يأتي بأمه ليلى لتنزل معززة مكرمة في ضيافة هند أم الملك.
لبى عمرو بن كُلثوم الدعوة وأتى في جماعة من تغلب ومعه أمه ليلى في ظعن من نساء تغلب. فأنزلهم الملك في رواقه الذي خصصه لهم ودخلت ليلى في قبة من الرواق مع هند أم الملك. كان عمرو بن هند قد اتفق مع أمه على أن تصرف الخدم فلا يبقى غيرها هي وليلى، وذلك كي تكلف ليلى ببعض الخدمة. يريد الملك بذلك أن تخدم ليلى أمه هندا.
عندما وُضعت المائدة قالت هند لليلى ناوليني يا ليلى ذلك الطبق، وطبعا ليلى أعز من تخدم أي امرأة، فقالت لها: “لتقم صاحبة الحاجة لحاجتها”، فأصرت هند وقالت: “ناوليني الطبق”، فغضبت ليلى وصاحت: “واذلاه يا لَتغلب”، فلما سمعها عمرو ابنُها، كان جالسا مع الملك عمرو بن هند، فقام إلى سيف معلق في الرواق فضرب به رأس الملك فقتله، ونادى في جمع تغلب فانتهَبوا ما في الرواق وساروا نحو الجزيرة.
فجعلت تغلب بعد ذلك تفتخر بقتل الملك عمرو بن هند والتمرد على سلطانه، وقد أشار الفرزدق إلى ذلك في دفاعه عن الأخطل التغلبي وهجائه لجرير حيث يقول:
ما ضر تغلبَ وائل أهجوتها – أم بُلت حيث تناطح البحرانِ
قوم هم قَتلوا ابن هند عَنوة – عمْرًا وهم قسطوا على النُّعمان
كان عمرو بن كلثوم يعيش في الفضاء الواسع، يُغِير مرة ويغار عليه، ينهب حيا مرة، ويأسر سيدا من سادة العرب فيأخذ منه الفداء أو يطلقه تكرما، فهذه عادته وعادة قومه وأشار إلى ذلك في قوله:
فما أبقت الأيام مِلمالِ عندنا – سوى جِذم أذواد محذَّفَة النسل
ثلاثة أثلاث: فأثمانُ خيلنا – وأقواتنا وما نسوق إلى القتلِ
يقول إن الحروب لم تبق من مالهم إلا إبلا قليلة، ويقول إن المال الذي بقي عندهم قسموه ثلاثة أقسام، قسما يصرفونه في الخيل التي يقاتلون عليها في حروبهم، وقسما للقوت والزاد وإكرام الضيف، وقسما للديات وإصلاح الجرائم التي اقترفوها.
لم يكن عمرو ينجو بفعلته كل مرة، فقد وقع مرة في الأسر، وقصة ذلك أنه خرج يغير على أحياء العرب كعادته ويعتدي عليهم. فأغار على حي من تميم، ومر أيضا في غزوه بحي من بني قيس بن ثعلبة فسلب أموالهم، ثم انتهى إلى بني حنيفة في اليمامة، وحينئذ خرج له بنو حنيفة وعليهم يزيد بن عمرو، فانقض يزيد على عمرو بن كلثوم وطعنه حتى أسقطه عن فرسه واقتاده أسيرا. ومن شيم العرب أنهم كانوا إذا أسروا سيدا عاملوه معاملة السيد. لذلك عفا يزيد هذا عن عمرو بن كلثوم وأكرمه وأحسن إليه، فنحر له وكساه وسقاه الخمر، فتأثر عمرو بن كلثوم بذلك، وجعل يمدح آسره فيقول:
ألا أبلغ بني جُشَم بن بكر – وتغلب كلما أتيا حِلالا
بأن الماجد القرم ابن عمر – غداة نطاعِ قد صدق القتالا
كتيبته ملَملَمة رداح – إذا يرمونها تُفني النبالا
جزى الله الأغر يزيد خيرا — ولقّاه المسرة والجمالا
كان عمرو بن كلثوم من المعمرين، فقد عاش 150 سنة، وقد ذكر أبو الفرج في الأغاني، أن عمرو بن كُلثوم لما حضرته الوفاة جمع بنيه يريد أن يوصيهم، فقال لهم: “يا بني، قد بلغتُ من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي، ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت، إني والله ما عيرت أحدا بشيء، إلا عيرت بمثله، إن كان حقا فحقا وإن كان باطلا فباطلا. من سبَّ سُبَّ فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لكم، وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم. وامنعوا من ضيم الغريب فرب رجلٍ خيرٌ من ألف، وردٍّ خيرٌ من خُلف، وإذا حُدثتم فعوا، وإذا حدَّثتم فأوجزوا، فإن مع الإكثار تكون الأهذار. وأشجع القوم العطوف بعد الكر، كما أن خير المنايا القتل، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا من إذا عوتب لم يُعتِب. ومِن الناس من لا يُرجى خيره ولا يخاف شره، فبَكْءُه خير من دَرّه، وعقوقه خير من بره، ولا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض”.
عشتم طويلا.