أدب
حقق العالم السوري أحمد راتب النفاخ رحمه الله ديوانَ ابن الدمينة عام 1959، تحقيقا رائقا، معتمدا مخطوطة للديوان في مكتبة عاشر أفندي بتركيا، وهي برواية الزبير بن بكار، وقد صنع الجزء الأول منها ثعلب أبو العباس الشيباني، والجزء الثاني صنعه أبو جعفر محمد بن حبيب رحم الله الجميع.
ابن الدمينة هو ممن نسبوا إلى أمهاتهم (الدمينة أمه) واسمه عبد الله بن عبيد الله، من بني تيم الله بن مُبشِّر الخثعميين، والدمينة أمه هي سلولية.
عاش ابن الدمينة حداثته في دولة بني أمية، لكنه شاعر عباسي، حيث رجح النفاخ أن يكون قد توفي بين عامي 180 و183 ه أي بعد قيام دولة بني العباس بأكثر من 50 سنة.
مواطن ابن الدمينة الذي عاش فيها هي مواضع أهله خثعم بين تُرَبَة وبِيشة وتبالة، وهي مواضع تقع الآن في الجنوب الغربي من المملكة السعودية.
اشتهر ابن الدمينة بأمرين طغيا على ترجمته في المصنفات: بحبه لأميمة ورقيق غزله فيها، واشتهر بقصة قتله، ولنقدم أولا قصة قتله.
كان ابن الدمينة متزوجا من امرأة تدعى أم أبان وكان بها فجور وطموح إلى الرجال، فكان يغشاها رجل من سلول اسمه مزاحم بن عمرو، وكان مزاحم بن عمرو السلولي هذا يفتخر بإتيانه زوجة ابن الدمينة، ويقول في ذلك شعرا لا يخلو من فحش.
ولما علم ابن الدمينة بأمرهما، خيرزوجته بين أن يقتلها أو تواعد مزاحما هذا ليتمكن من قتله، فخشيت المرأة على نفسها من القتل وبعثت إلى مزاحم أن يأتيها في المكان الذي كان يأتيها فيه، وكمن له ابن الدمينة مع بعض أصحابه فعندما جاء أمسكوه فقتلوه وفر ابن الدمينة، فلما وجد قوم الرجل جثته في الصباح علموا أن ابن الدمينة الفاعل.
بعد ذلك بمدة كبِر أخ للقتيل اسمه مصعب ابن عمرو، وجعل يتتبع أخبار ابن الدمينة، حتى ذكر له في حي من خثعم فتسلل إلى مجلسه وفاجأه طعنا بالخَنجَر، فأصيب ابن الدمينة إصابة بالغة، وكان ذلك في العبلاء وهي من أرض تبالة التي مر بنا ذكرها. عندما طعن مصعب ابن الدمينة حُمِلا معا إلى السجن وسجنا، ولما علم فتيان سلول بخبر الفتى عزموا على إخراجه من السجن، فجاؤوا السجن في هدأة الليل وكسروا الباب وفروا بابن عمهم، أما ابن الدمينة فقد بقي في السجن ينزف إلى أن مات.
وقبل موته حزن حزنا شديدا لأن قومه لم ينقذوه وأنقذت سلول قاتله مصعبا، فجعل يعبر عن ذلك الحزن بقوله:
أَمُصعَبُ قد نَجَوتَ مِنَ الأعادي — ولم تُصبح بِمُعتَرَكٍ قتيلا
ثَأَرتَ مُزَاحِماً وسَرَرتَ قَيساً — وكُنتَ لِمَا هَمَمتَ بِه فَعولا
دعوتُ بأَكلُبٍ ودَعَوتَ قَيساً — فلا كُشُفاً دَعَوتَ ولا قليلا
ونادى مُصعَبٌ قيساً فجاءت — ونادَيتُ المُرَجّى والخَذولا
فلا تَشْلَل يداهُ ولا تَزالا — تُفيدانِ الغَنائمَ والجَزيلا
ولو كانَ ابنُ عَبدِ اللهِ حيّاً — لَصَبَّحَ في مَنازلِها سَلولا
وابن عبد الله هذا هو ابن عم ابن الدمينة وكان شجاعا بطاشا، فابن الدمينة يقول إن ابن عمه هذا لو كان حيا لثأر له من سلول.
أما قصة عشق ابن الدمينة التي أرخ لها بقريحته العذبة، فهي أنه كان يجول في قرى خثعم وبواديها، فأحب فتاة من قومه تدعى أميمة، وأغلب ما قاله من غزل إنما قاله في أميمة هذه، وكانت هي تحبه أيضا وعندما علم أهلها بذلك منعوا لقاءهما وقطعوا وصالهما، فكان يهيم بها عشقا ولا يكاد يظفر منها بلقاء. ورواية أبي الفرج في الأغاني تقول إن ابن الدمينة تزوجها في الأخير ومات وهي عنده.
ومن رقيق شعره فيها قوله في بائيته:
أَحقّاً عِبادَ اللهِ أَن لَستُ واردا — وَلا صادراً إِلاَّ عَلَىَّ رَقِيبُ
وَلاَ مَاشِياً وَحدِى وَلاَ فِى جَمَاعةٍ — مِنَ النَّاسِ إِلاّ قِيلَ أنتَ مُرِيبُ
وهَل رِيبةٌ فِى أَن تَحِنَّ نَجِيبةٌ — إِلَى إِلفِهَا أَو أَن يَحِنَّ نَجِيبُ
وإِنَّ الكثِيبَ الفَردَ مِن جَانِبِ الحِمَى — إِلىَّ وَإِن لَم آتِهِ لَحَبِيبُ
وَلَو أَنّنِى أَستَغفِرُ اللهَ كُلَّمَا — ذَكَرتُكِ لَم تُكتَب عَلَىَّ ذُنُوبُ
ومن أعذب ما روي من شعره فيها أيضا قوله:
قفي قبل وشك البين يابنة مالك – ولا تحرمينا نظرة من جمالكِ
قفي يا أميم القلبِ نقض لبانة – ونشكُ الهوى ثم افعلي ما بدا لكِ
سلي البانة الغناء بالأبطح الذي – به الماء هل حييتُ أظلال ضَالِك
وهل كفكفت عيناي في الدار عَبرة – فُرادى كنظم اللؤلؤ المتهالكِ
ليهْنِكِ إمساكي بكفي على الحشا – وإذراء عيني دمعَها في زيالِكِ
تعاللتِ كي أشجى وما بكِ علة – تريدين قتلي قد ظفرتِ بذلكِ
أبيني أفي يمنى يديكِ جعلتني – فأفرحَ أم صيرتِني في شِمالكِ
لئن ساءني أن نِلتني بمساءة – لقد سرني أني خطرتُ ببالكِ
وكان إذا أعجبته امرأة وشبب بها لم ينس أميمة هذه ولمح إليها تلميح المصرح، ومن ذلك قوله:
من الناس إنسانان ديني عليهما – مليان لو شاءا لقد قضياني
خليلي أما أم عمرو فمنهما – وأما عن الأخرى فلا تسلاني
ويقول فيها أيضا:
حَلَفَت أُمَيمَةُ أَنَّ وُدِّي كاذب – مَذِق وأني خائن غدار
كذبت أميمة والذي حَجّت لَهُ — شُعثَ الرُّؤوسِ بِمكَّةَ الأَبرَار
لو تَعلَمِينَ وَقَلَّمَا جَرَّبتِنى — وَالعِلمُ يَنفَعُ وَالعَمَى ضَرَّارُ
لَعَلِمتِ أنّى بالمَغِيبةِ حَافِظٌ — للسِّرِّ مِنكِ وَأنّنى نَصّارُ
ومن رقيق شعره أيضا قوله:
ألا يا صبا نجد متى هجتِ من نجدِ – لقد زادني مسراكِ وجدا على وجدِ
أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى – على فنن غض النبات من الرَّند
بكيتَ كما يبكي الوليد ولم تكن – جليدا وأبديت الذي لم تكن تبدي
سجن ابن الدمينة مرات، لأسباب مختلفة، وقد قال مرة يفخر وهو سجين:
وإنا لن نفارق أهل أرض – ولا أصحاب سجن ما حيينا
ويختلطوا بنا إلا افترقنا – عليهم بالسماحة مُفضلينا
عشتم.