تمامًا كما يليقُ بأبٍ كان ينصح، ويُناقش ويُربّتُ ويدعو، بابتسامته وهدوئه اللذيْن لم يفارقاه رغم توجّع جسده وقلبه على ما آل إليه الحال، حاله هو ورفاقه من كلّ اتجاه، وحال بلدنا المسكين، يتحمّل تحامق الصغار من أمثالي وتواقحهم بمودّةٍ آسرة، ويُناقش ما لديهم بجديّة وطول بالٍ تُجبركَ على التفكير طويلاً.
لعلّه عام 2006 ضمّ لقاءنا الأوّل، على عتب مؤتمرات الاستقلال واجتماعات التضامن، ولم تتوقّف اللقاءات منذها حتى ضمّتنا ظلمة ليمان طره عام 2013-2014م، في كلّ موقفٍ وطنيّ ستجده يتحامل على سنين عمره وعلّات جسده ليملأ فراغًا بحجم الآلاف، بحجّةٍ وثباتٍ ولطفٍ لا يُتجاهل .
هذه المحبّة والثقة التي له في قلبِ كلّ حرّ، لا في مصر وحدها، إنّما في أي بقعةٍ عُرف فيها، متجاوزًا التباينات وحتى التناقضات الفكرية والأيدلوجيّة والحركيّة، متجاوزًا حتى عند بقايا العقلاء الذين كانوا في بعض موضعٍ هنا وهناك في دواليب الدولة العفنة، يُرجع إليه ليحسم، ويُستعانُ به ليُعين، ويُتمنّى عليه ليلبّي، وطالما ضمن حضوره مجرّدًا ثقلَ الحدث والحديث في أعين الكلّ من المراقبين وأصحاب القرار(ما أغباهم!) والجمهور، وقت أن كان في للقضاءِ قُضاة، يُجلّهم الناس ويحتكمون إليهم.
في أسوأ الكوابيس لم يكن وجود القاضي الجليل “محمود الخضيري” في المعتقل شيئًا قابلاً للتصوّر، ولو جموح خيالٍ أو محض عبث، ورغم موقفه من سلطة الإخوان وقتها، وما بعد الثلاثين من يونيو، إلا أن الانقلاب كان يعرفُ أثر قيمة جليلةٍ مثله، فأسرع بإلقائه إلى الجبّ مع البقيّة، وكان حظّي عظيمًا بهذه الرفقة.
في السجن؛ لا تدوم الانبهارات الأولى إلا قليلاً، وسرعان ما تتجلى جواهر الناس مع كلّ اختبارٍ وموقف، حتى يتجرّدون من كلّ حليةٍ وستار، فيبدون لك كما هم حقيقةً بغير رتوش ولا “فلاتر”. لكن أن يدوم انبهارك/إجلالك للرجل تمامًا كما كنت -صبيًّا- تراهُ قائدًا يشعل الأفئدة حُرقةً على شرف منصّة العدالة واستقلال قضائها، بذات الهدوء النافي لمرادات السجن والسجّان (ذلك الذي يغلق باب الزنزانة، والآخر الذي يسكّ منافذ البلاد كلّها)، والمدركِ لحقيقة دوره وأثره، بتواضع الكبار، دون اهتزاز صورةٍ أو ارتباك معنى أو تشوّش قيمة، مهما بلغت قسوة الاختبار وفداحة الخسارة.
بإلحاحٍ يوميٍّ، ومقدّمات من “الزنّ” الذي أجيدُه (كان الصديق العزيز الأستاذ عصام سلطان خير معينٍ على تلك المهمّة)، يستجيب الرجل الحييّ ويخرج للتريض، ماشيًا على مهلٍ، مستندًا إلى ساعدي، لثمانِ خطواتٍ أو تسع في أطول المسافات التي قطعها بمشقّةٍ وجلال، ثم يستريح إلى كرسيٍّ في يدي الأخرى، لنعودّ بعدها على ذات الخطى التي مشيناها سويًّا.
يُشاركنا الحديث، ولا يقوى على إيصال صوته لبقيّة الزنازين حين تُغلق، إذ وضعَ في آخر زنزانةٍ بالعنبر انفراديًا، دون مراعاة عمره، أو مرضه، ودون مراعاة قيمته قبلهما (أو لعلّ إدراك قدره هو الذي جعلهم يُصرّون على حشره قسرًا بهذا القبر، ليتخلّصوا منه)، ويطلب منّا أن نرفع أصواتنا عند بدء “إذاعة صوت الحريّة” (صوت الزنازين في تسمية أخرى) كلّ مساء، ويسألُ هذا عن رأيه، وذلك عن موقفه، ويسمع ويقولُ -ولو قليلاً- ما يشفي ويطمئنُ.
مشهدُ الرجل العظيم، في المعتقل، بملابس أرادَ لها صانعها المخبول أن تبدو مهينة ومقرفة، دون أن تُفقده شيئًا من سكينته وتسامحه، كما لم تفقده شيئًا من مهابته، يستحقُّ العجب؛ إذ كان يحترمه حتى سجّانوه على اختلاف رتبهم وسلطاتهم احترامًا لا يُستر، وإن تظاهروا بغيره أمام قيادةٍ هنا أو بصّاصٍ هناك (المنظومة المهترئة تضع لهم البصاصين، كما لنا).
أمّا الآخرون، سكّان الدركِ الأسفل من تراتبيّة المقتلة القائمة منذ زمنٍ كأنّه الأبد، أصحاب القصور والحراسات والمواكب المهيبة، ووقاحة السلطةٍ الطارئة (أنا أحيي وأُميت) الذين اختاروا كلّ ما سوى الضمير والعدل، فعشرات اللعنات والبصقات ظلّت تتقاذف وراء ظهورهم -وأنا على ذلك من الشاهدين- ممن يمنحونهم التحيّة الرسميّة والابتسامة المتباسمة الملفّقة (خشية العقاب، واستكمالاً للدور المسرحيّ المبتذل).
قد لا تذكر مآثره أي وسيلةٍ رسميّة أو مترسمنة، قد يمحى تراثه وحكاية نضاله، كما حدث مع كل صاحب نضالٍ ومازال يحدث، قد يُشوّه وتُطلق عليه كلاب السكك الإلكترونيّة والصحفيّة، لكنّ لحظةَ الحقيقة القادمة لا محالة، ستعيدُ له شيئًا من حقّه، وتكشف قدره وأثره، وتحكي للناس حكاية واحد من القاضيين، فعل بطول عمره كلّ ما يجنّبه مسير ومصير القتلة على الجانب الآخر من الحياة.
أو لعلّه صعد بتراكم حسرته على ما آل إليه حال العدالة في بلدنا المسكين، بعدما خلعت “ثيميس/جوستيتيا” ستارها، وفتحت ساقيها لمن يملك المسدّس أو المال، أو يسطو على كليهما كما على رقاب الناس ومصائرهم.
رحم الله القاضي الجليل، وصاحب السجن القدير، والإنسان المناضل النبيل “محمود الخضيري”، وانتقم ممن ظلمه، وأعاد للعدالة شرفها المهدور.