تجارب

مذكرات نازحة.. 320 يوما من النزوح (1)

أغسطس 24, 2024

مذكرات نازحة.. 320 يوما من النزوح (1)


هواءُ عليل، مليء بالموت والترقب، أجلس هنا منذ 320 يوما من اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أجلس في بقعة لا تتجاوز مساحة (365 كم)، بين كّر وفر، أهرب وأراوغ الموت، كلما أسقط علينا من السماء ورقه!


كانت السماء تُمطر أمطارا، لكنها هُنا تُمطر علينا بالصورايخ، وإن كُنتَ محظوظاً ترميك بمنشورات تأمرك بترك المكان ومغادرته نحو المناطق الإنسانية كما يدّعي الجيش الغازي.  هُجرتُ مرةً طواعية، وبعدها قررت أن أتوب، لن أترك المكان..


كانت المرة الأولى حين استجبت لطلب الجيش الاسرائيلي بالتوجه نحو جنوب القطاع، في سيارة صغيرة حملتُ نفسي وحقيبتي وبرفقتي طفلتي “تولين” ذات الثمانية سنوات وتتقدمنا أمي بملامح وجهها الحزين.


وصلت لمكان يعجُ بالنازحين، معهد لوكالة غوث اللاجئين، وفي غرفة مُعتمة جلستُ برفقة عائلة أمي، بكيتُ منزلي وبكيتُ وجودي أمام طابور لدخول “الحمام”. كانت ليلة بليالٍ!


في صباح اليوم غادرت” خانيونس” وتوجهتُ نحو المنطقة الوسطى “دير البلح” استضافتني صديقتي في منزلها لمدة عشرة ايام، ثم اتخذت القرار الأعظم..سأعود، سأعود نحو الشمال!


على طريق صلاح الدين كان القصف مستمراً، كان سائق السيارة يقود السيارة بسرعة جنونية، لكن جنوني كان أكبر، كان صوت بداخلي يُخبرني بأنني على صواب. يجب ألاّ أغادر الشمال، عليّ العودة للديار!


أبلغ من العمر 31 عاماً وكلما سألني أحدهم عن مكان سكني أخبرهم دوماً بعينيّ اللامعتين “أنا بنتُ الشمال” ، لم أُخيب ظن الشمال بي، ولم يخذلني مرةً ، لقد احتواني شمالنا الصامد بعد أن دمروا كل بيوتنا، احتميت في منازل الأقارب، لكنّ العدو يطاردنا .. يطارد كل نفسٍ لنا، يحرقنا بمجازره ، غادرت البيت مرة واثنتين كلما تقدمت دباباتهم نحونا نركض أمامها باتجاه مكان جديد، ثم نعاود الكرة..


لا أنسى كيف كان اقتحام المكان بجانب مستشفى اليمن السعيد في معسكر جباليا نهاية شهر ديسمبر من العام الماضي، كيف تمت محاصرتنا داخل البيت، احتضنتُ طفلتي لنموت معاً، عليهم ألاّ يفرّقوننا ، علينا النجاة معاً أو الموت معاً.


كانت ساعات الليل حالكة ومع الفجر وبزوغ الشمس تمكنا الخروج من بوابة المنزل والركض فوق الجثث في الحي! لا وقت للبكاء ولا وقت لتتعرف على الشهداء.. عليك النجاة بنفسك وبعائلتك..


هل يمكنني حبس أنفاسي حين أخبركم عن وصولي ووقوفي أمام مدرسة التابعين وتمالك نفسي وأنا أخطو نحوها بخطى ثقيلة، سيصبح هنا منزلي!


وضعتُ الحقيبة وبكيتُ، والله أني لم أبك يوماً كما بكيتُ وأنا أرى تكدسنا في “صف دراسي” حوّله أصحابه لمنزل، رحبوا بنا واستضافونا معهم، 20 سيدة وطفل ننام في صف دراسي، أنام متكوّمة، أشد قدماي نحو ذقني، لكي أحظى بمساحة وأنام، لا أجد وسادة، فأنا لا أمتلك وسادة أضعها تحت رأسي، ألفُ قطعة من ملابسي وأضعها تحت رأسي، ننام كلنا بحجابنا لا نخلعه أبداً، هل عليّ أن أطرق مساحتكم الآمنة وأخبركم عن كفاح وصراع دورات المياه!


طابور حقاً إنه طابور وعليك أن تصطحب معك مرافقة، لتحجز دورك لدخول دورة المياه وعليك ألاّ تنسى إحضار قالون مياه صغير، المياه مقطوعة الكهرباء مقطوعة الاتصالات مقطوعة..


في فجر أحد الأيام، هاجم صاروخ من طائرة اف 16 مئذنة المسجد الموجود داخل المدرسة، بين غبار الصاروخ وصراخ الجميع استيقظتُ أبحث عن ابنتي من حولي، وابحث عن حقائبنا علينا مغادرة المكان بأسرع وقت، الدبابات قريبة على وشك الوصول.


ركضنا في الشارع، وأمام حيرة السؤال “وين حنروح” سقط صاروخ آخر بالقرب منا، ركضنا هربا من الشظايا ، لم يخطر في بالي بأن المدرسة التي احتضنت خوفنا ونزوحنا، سيرتكب الاحتلال فيها مجزرة لاحقة صبيحة العاشر من أغسطس 2024. راح ضحيتها أكثر من 150 شهيد أثناء صلاة الفجر، كان يمكن لنا أن نكون أحد ضحاياها!


وجدنا أنفسنا أمام مبنى حكومي! وغرفة لا تكفي لمكتبين كان علينا تحويلها لمنزل! عزمتُ على التكشير عن أنيابي والخوض في معارك طابور الحمام وطابور تعبئة المياه، وحماية مكانك من نازحين آخرين .


الموت بكل أشكاله لا يضاهى معاناة النزوح  14 مرة..

أحفظهنّ عن ظهر قلب..

نزوُح يليه نزوح والعودة للصفر ثم التأقلم ثم نزوح جديد..

لكنّ الطريق لا يتسع سوى للشهادة أو النصر!



شارك

مقالات ذات صلة