سياسة

الإصلاح الاقتصادي: استدعاء العقل في الإنفاق، والضمير في المراجعة والحساب

أغسطس 19, 2024

الإصلاح الاقتصادي: استدعاء العقل في الإنفاق، والضمير في المراجعة والحساب


بدأت المبادرة التي تقدمت بها في العام ٢٠١٩ بلفت الانتباه إلى مخاطر التعديلات الدستورية التي تم إقرارها في حينه ووضعت جل صلاحيات إدارة الدولة في يد الرئيس وحده. مع إيضاح دور الرقابة المجتمعية والتشريعية في إصلاح المُعوج وتقويم المنحرف من الأمور.


في هذا المقال أستكمل البنود التي طرحت، ولا تزال صالحة وقابلة للتطبيق، حتى مع عمق أزماتنا الحالية وتفاقم أوضاعنا الاقتصادية وسياساتنا الخارجية التي تقزم مصر وتحصرها في أدوار معلبة لا تليق بمكانتها، والمشروعات الفاشلة التي لم ير منها المواطن نفعا متحقق أو حتى متوقع، زد على ذلك الإفراط في سياسة الاقتراض للحد الذي يخشى معه عدم القدرة على الوفاء بأقساط الديون أو ربما حتى العجز عن دفع كلفة خدمتها في الأجل القريب. 


النظر إلى القطاعات الاقتصادية المختلفة في مصر صناعيا وزراعيا وتجاريا يستلزم وقبل البحث عن الاستدانة لإيجاد موارد جديدة، نظرة جادة إلى الموارد المهدرة، كآلاف المصانع المتوقفة على سبيل المثال، الثروة المهدرة في مشاريع أثبتت أنها غير ذات جدوى، إلى آخره. إن أردنا مناقشة سياسات اقتصادية قويمة ، فلا بد من أن يضطلع البرلمان المصري بدوره الأصيل. لا يمكن ممارسة هذه الرقابة من دون إخضاع الحكومة لمراجعات البرلمان بهذا الشأن وإقرار جدوى تلك المشروعات ومدى استفادة المواطن منها.


اللجنة الثالثة المقترحة هي إعادة هيكلة الموازنة العامة للدولة. الدولة المصرية منهكة بموازنتها العامة المستهلكة في خدمة الديْن. القدر الضئيل من هذه الموازنة يتوارى خلف باب الأجور والدعم والخدمات والخطة الاستثمارية. تقدم الموازنة العامة للدولة كل عام للبرلمان أسوأ من ذي قبل. يجري إدخال بعض التعديلات الطفيفة أو الجزئية هنا أو هناك دون حلول حقيقية للتعامل مع التضخم وأزمة الدين وطلبات جهات الإقراض الدولية التي توضع برمتها على كاهل المواطن. نحتاج بشكل محدد للأخذ بمبدأ وحدة الموازنة، فلم يعد لائقا ولا عمليا وجود موازنة عامة للدولة، ثم بالتوازي موازنات لهيئات وجهات اقتصادية ومالية مستقلة، من بينها مثلا هيئة المجتمعات العمرانية. تذهب أرباحها وهي مليارات الدولارات لصالح العاصمة الإدارية وأشباهها من مشاريع ، من ثم لا يطال المواطن منها إلا العبء، لا لأنها تقتطع من الموازنة العامة للدولة، وإنما لأن هذه الأرباح كان يفترض أن تضاف لموازنة الدولة التي يفترض أن ترجع على المواطن بتحسين الخدمات ورفع الأجور ومضاعفة برامج الحماية المجتمعية. بالمثل موازنة قناة السويس، التي تصرف من رسومها مبالغ طائلة للمكافآت والأرباح وغيرها ثم يذهب قدر يسير إلى الموازنة العامة للدولة. لا يفوتني أيضا التأكيد على تفعيل موازنة البرامج والأداء، وتفعيل اللامركزية التي نص عليها الدستور المصري في إطار موازنة موحدة جديدة لا تراكم موازنة سنة تلو الأخرى.


التعليم والصحة والإنفاق عليهما من أبسط وأكثر حقوق المواطن في أي دولة ذات هيكل ثابت. مخصصات هاتين الجهتين للصرف لا يمكن بأي حال من الأحوال التفريط أو الاستهانة بمواردها ولا بأوجه الاستثمار فيها. لا مناص من توقف الدولة عن التحلل من دورها الاجتماعي بحجة الفاقة. الدعم لمن يحتاجه جزء لا ينفصل أبدا عن واجب الدولة تجاه من يحتاج الدعم من مواطنيها. ولا يمكن لإصلاحات تُملى من جهات إقراض أيا ما كانت حاجتنا إليها بسبب سوء الإدارة والفساد أن تُجرّع المواطن  عصارة فاسدة لدولة لا تخطط جيدا ولا تلتفت لدراسات الجدوى في مشاريعها المعلنة وغير المعلنة.


اللجنة الرابعة معنية بمكافحة الفساد. الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد لم تكن بالكفاءة بمكان لتحرر هذا الوطن من انعقاد العزم بين السلطة والثروة على ممارسة الفساد بل والتشريع له. التشريعات وتفعيل آلية الرقابة لا ينفصلان أبدا، إذ لابد من رؤية تتكامل فيها أجهزة ومؤسسات الدولة. البرلمان في الحالات المثلى يمتلك الرقابة السياسية، لكن لا مانع أبدا أن يجد ذات البرلمان ما يستدعي الإحالة للنيابة العامة فيما يترتب عليه عقوبات جنائية على مرتكبي مخالفات وجرائم الفساد. الرقابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات لا يمكنهما العمل بشكلٍ منفرد دون توافق على تمكين أدوات الدولة الرقابية وكذلك رقابة المجتمع المدني على الأداء الحكومي وغيره لتقويم المسار.


في المقال القادم أستكمل بنود الإصلاح التي لا مناص منها للخروج من مستنقع الديْن وسوء الإدارة التي حلت على مصر وتشدها شدا للهاوية. مازال بإمكاننا تصحيح هذا المسار لكي نجنب مصر مسارا سيكون من العسير، بل من المستحيل ضبطه والسيطرة عليه إذا انزلقت الأوضاع إليه في مصر.



شارك