سياسة
كانت هذه المبادرة طرحنا منذ الإعلان عن نتيجة استفتاء ٢٠١٩ عن التعديلات الدستورية. ويشهد الله أننا لم نسع من ورائها لجاه ولا سلطة، أردنا فقط إنقاذ الوطن. كان علينا آنذاك كما هو اليوم أن نفكر جديا ”وماذا بعد؟“ إذ يسهُل كثيرا على المرء أن ينقد وينتقد، لكن العسير هو أن يجتهد لإيجاد حلول.
تلك التعديلات التي مثلت انتكاسة كبيرة في مسار الفصل بين السلطات، بل وعادت بأنماط حكم تشبه تلك التي كنا نتندر بها في القرون الوسطى من حيث تركيز السلطة المطلقة في يد الرئيس بين أمور أخرى مثلت ضربة موجعة لعملية التحول الديمقراطي التي بعثت ثورة يناير المجيدة الروح فيها، وسنعرض لتقويمها في هذا المقال. حاولنا كما نحاول الآن تجنيب مصر الانجراف إلى مسارات لا يتحملها الوطن، خصوصا في ظل محيط إقليمي ملتهب نرى تداعياته جميعا. الصورة المغلوطة التي عادة ما تقدم لا تؤسس لدولة وطنية ديمقراطية ولا لبلد بقى لعقود يناضل ليوازن بين العصرية الحديثة والتراكم الحضاري العميق. الهدف من هذه الصورة المغلوطة كان وما زال إكراها لشرائح واسعة من المواطنين على الإقدام على خيارات لا داعي أن نواجهها أو نخاطر بمواجهتها.
البديل الأول كان في ٢٠١٩ بتشكيل تحالف سياسي وانتخابي ليخوض مجتمعا الاستحقاقات الانتخابية ويقدم للمواطنين المصريين بديلا مدنيا ديمقراطيا وهو ما حاولت قبل منع حملتي أن أقدمه للمرة الثانية أنا وزملائي في الاستحقاق الرئاسي ٢٠٢٣ من ذات المنطلقات ولذات الغاية. فلم يكن يليق في نظرنا أن ينافس الرئيس أحد أعضاء حملته الانتخابية مثلا ، أو أن يمنع ساعيا للترشح من الإقدام على ذلك في بلد بحجم ومكانة وقيمة مصر. هذا التحالف الذي قررنا له اسم ”تحالف الأمل“ تعرض لعنف شديد غير مبرر استخلصنا منه آنذاك أن هذا الطريق غير متاح وليس له من سبيل مع هذه السلطة. من منطلق مسؤوليتنا وخوفنا على وطننا وحرصا منا عليه وعلى أمن وسلامة هذا الشعب العظيم فكرنا في بدائل أخرى، فطرحت بشكل شخصي بعدها حوارا وطنيا يتبناه الرئيس بالمعنى الحقيقي للحوار وبآليات تضمن الندية والنقاش الحقيقي الصريح الذي يؤسس لحوار نخبوي ثم مجتمعي على نطاق أشمل يكون فيه للمواطن الكلمة الأخيرة فيما يُنتخب من الأفكار والمشاريع والسياسات. الأساس في حوار السلطة – أي سلطة – أن تجلس إلى المعارضة كي تستمع إلى وجهة نظر أخرى بديلة. كم كنت أتمنى أن تلقى مبادرتي للإصلاح طريقها لا إلى السلطة وحدها بل إلى المواطن أيضا.
المدخل الشرعي لإدخال أي إصلاح أو تبني أي مقررات لأي حوار هو إخضاعها للنقاش في المجلس التشريعي ليس لدراستها فحسب، وإنما لتحديد آلية الإلزام بها للسلطة التنفيذية ثم آلية أخرى للرقابة والمحاسبة في التهاون أو التقصير في تنفيذها. يتساوى في ذلك الموظف الأقل درجة وظيفية برئيس الجمهورية، فطالما أن موظفا عموميا أوكلت له مهمة ينبغي محاسبته. وهذه ليست بدعة، فقد شكل البرلمان المصري بالفعل مباشرة ١٥يناير ٢٠١٦، بعد أيام من التعديلات الدستورية لجنة سعينا لها لفحص ما جاء في تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات وقد عبر بشكل مرعب عن حجم ومؤشرات الفساد. المجلس شكل اللجنة بالفعل لكن القرار لم ينفذ، ولم تُفعّل اللجنة. ثم جرى تعديل قانون الجهاز المركزي للمحاسبات نفسه بما يمنح لرئيس الجمهورية صلاحية إعفاء رئيس الجهاز وهو اعتداء سافرا على استقلالية الجهاز الأهم والأكبر للعمل الرقابي.
الركن الثاني يتمثل في الاستجوابات البرلمانية، وقد قدمنا أول استجواب فيما رأيناه مخالفات دستورية وقانونية لم تحسن ضبط الآليتين التشريعية والتنفيذية وكانت النتيجة عدم إتمام أي استجواب. فكيف بالسلطة التشريعية أن تضبط أو تحاسب أو حتى تراقب أداء السلطة التنفيذية للوفاء بوعود قطعتها على نفسها وألزمت نفسها بأدائها خلال مدة يفترض أن تكون محددة وتليق بالمهمة. يستدعي ذلك لجانا متخصصة تدرس وتدقق، فلنقل إنها اثنى عشرة لجنة، أولها وأهمها لجنة للعمل على الإصلاح الدستوري. فلا تتسق التعديلات الدستورية أمس أو الآن إلا بمراجعة مختصين في الدستور والقانون الدستوري. فمثلا لا يمكن قبول تعديلات مدد الرئاسة إلا بمزيد من الضمانات لدرء سوء استخدام السلطة.
اللجنة الثانية وهي أيضا الركن الأكثر إلحاحا في أي إصلاحات قريبة هي لجنة للعمل على إصلاح الاقتصاد المصري. قلناها منذ التعديلات الدستورية في ٢٠١٩ إن طلبات صندوق النقد الدولي ترسم صورة لمجموعة من الإصلاحات الصورية التي لا ترحم المواطن ولا تعي آلامه. المطلوب من هذه اللجنة هو البحث فيما يشبه الوصفة الوطنية لمعالجة الأمراض المزمنة في الاقتصاد المصري كالبطالة والدين العام وقضايا المشروعات القومية المجدي منها وغير ذي الجدوى. الأهم على الإطلاق في هذا الملف هو معالجة قضية الفقر في مصر. تليها تحديد الفروق بين العدالة الاجتماعية والحماية الاجتماعية. ثم تأتي أزمة آلاف المصانع المتوقفة والمصفاة وفرض الرقابة على آلية التطبيق وعدالة المبدأ.
في الجزء القادم أفصل بالترتيب بنودا أخرى قد ترسم خط إصلاح لمصر، وقد تخطو بنا من الفوهة الضيقة التي سئمناها إلى براح تستحقه مصر وتقدر على ثمنه.