سياسة
“أهلاً بكم في جهنم”.. أربع كلمات قالها أحد السجانين الإسرائيليين لمعتقلين فلسطينيين وصلوا إلى سجن “مجدو” اعتقلوا بعيد السابع من أكتوبر، وهي عنوان تقرير لمنظمة “بتسيلم” أو “مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة” الذي وثق في 118 صفحة جرائم مروعة نفذها جنود الاحتلال بحق أسرى فلسطينيين في معسكر “سدي تيمان” وغيره من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، بما فيها الاغتصاب بأشكال مختلفة والتعذيب الجسدي والجنسي والنفسي والحرمان من النوم والاستحمام لوقت طويل والتحقير والترويع والتجويع.
شهادات تشيب لها الولدان وثقتها المنظمة لـ 55 أسيراً فلسطينياً فقط، بينهم 30 من الضفة الغربية والقدس، و21 أسيراً من غزة و4 أسرى من الداخل، حيث يروون ما تعرضوا له في مسالخ الاحتلال منذ السابع من أكتوبر 2023. ثم بعد ذلك تخرج علينا متحدثة باسم البيت الأبيض الأمريكي وتقول إن “التقارير عن اغتصاب وتعذيب وإساءة معاملة السجناء الفلسطينيين من قبل الجيش الإسرائيلي، تبعث على القلق”. وتذكر إسرائيل بـ”ضرورة تعاملها مع جميع السجناء وفقا للقانون الدولي”.
لا أدري أي قانون دولي تتحدث عنه أمريكا وأساليب الاغتصاب التي يتعرض لها أسرانا تستخدم بشكل روتيني كسلاح تعذيب ضدهم منذ شهور طويلة. في الأسبوع الماضي اعتُقِل 9 جنود من القوة 100، بتهمة اغتصاب أسير فلسطيني بشكل جماعي باستخدام أداة حادة في معسكر “سدي تيمان”، حيث تم نقله إلى المستشفى وقد تعرض لإصابة بليغة. وبالطبع أطلق سراح 5 جنود من هؤلاء فيما لم يتم توجيه تهم للأربعة الآخرين بعد.
تذكر شهادات بعض الأسرى الذين تم توثيق إفاداتهم بأن عمليات الاغتصاب والاعتداءات الجنسية، كانت تتم إما بوضع عصي وأدوات حادة في الدبر أو من خلال الكلاب البوليسية، نعم هناك أسرى تم اغتصابهم من قبل كلاب بوليسية! لكن كل ذلك لا يساوي شيئاً عند الأمريكيين الذين اكتفوا بـ”القلق” جراء هذه الإفادات المروعة.
ومنذ السابع من أكتوبر استشهد 60 أسيراً فلسطينياً في مراكز الاعتقال والاحتجاز الإسرائيلية -بحسب ما هو معلن فقط- واستشهد هؤلاء إما نتيجة التعذيب الشديد أو حرمانهم من الحصول على الرعاية الطبية، ولم تجر دولة الاحتلال أي تحقيقات ولم تعتقل أي شخص شاركوا في قتل كل هؤلاء الأسرى.
أدعوكم فقط لتتصفحوا تقريراً واحداً من التقارير العديدة التي نشرت عن جرائم الاحتلال بحق آلاف من أسرانا، أدعوكم لقراءة هذه الشهادات مرة واثنتين، تخيلوا معي فقط ماذا يعني تعصيب العينين لساعات طويلة وأحيانا لأيام وأسابيع. تخيلوا تقييد اليدين على مدار الساعة ولأسابيع، وشدها بشكل يؤدي إلى نزيف دموي وبتر للأعضاء، التي يرى السجان أنه من الأفضل قطعها لا علاجها!
تخيلوا مشاهد إجبار الأسرى على طأطأة رؤوسهم في وضعية القرفصاء والنوم على بطونهم لفترات تصل إلى أسابيع وشهور، تخيلوا الضرب الشديد بالهراوات والأحذية العسكرية وكابلات الكهرباء على مختلف أنحاء الجسد، تخيلوا الضرب على المناطق الحساسة “حتى يفقد الأسير القدرة على الإنجاب” وفق إفادة أحد الأسرى، تخيلوا ضرب وسحب العضو التناسلي والخصيتين، تخيلوا الضرب بمطرقة الحديد “شاكوش” على الظهر والركبتين والخصيتين.
أما التجويع فحدث ولا حرج، جميع شهادات الأسرى المفرج عنهم تتحدث عن التجويع حتى الموت الذي تعرضوا له، لم يشبعوا يوماً واحداً منذ السابع من أكتوبر، كانت تقدم لهم وجبات لا يعرفون ما كان يوضع بها، وفي أحسن الأحوال كانت سيئة كماً ونوعاً ومعظمها أرز منقوع. ويشمل هذا التجويع التعطيش أيضاً، حيث يُحرم الأسرى في بعض الحالات من المياه 23 ساعة في اليوم!
تخيلوا كيف يكون الشبح بوضعيات مختلفة ولساعات طويلة، وحني الظهر حتى يصبح جسد الأسير كـ “الموزة”، تخيلوا تقييد أيدي وأقدام الأسرى وإجلاسهم أو إجبارهم على الوقوف لفترات طويلة، وحرمانهم من النوم أو الراحة أو قضاء الحاجة خلال الشبح، وفي بعض الأحيان يتم إطلاق الكلاب البوليسية عليهم لتنهش لحومهم.
وبالإضافة لهذا كله، وحتى قبل أن تكون هذه الحرب، كان الأسرى وخصيصاً كبار السن منهم يتعرضون لجرائم طبية وحرمان من العلاج وخصيصاً مرضى السرطان الذين يفقدون وعيهم من شدة الألم وفي بعض الأحيان يفقدون أرواحهم وهم يناشدون السجان العلاج. فيما أدى الإهمال الطبي إلى انتشار العديد من الأمراض الجلدية المعدية، يتحدث بعض الأسرى أنهم رأوا زملائهم يحكون جلودهم بأظافرهم حتى أدميت، وعندما كانوا ينشدون العلاج كان السجان يكتفي بإعطائهم حبة مُسكّن.
وكل هذه القصص المروعة في كفّة، ووجود مئات الأطفال والنساء من الأسرى -لا يمكن إحصاء عددهم بدقة- في هذه المسالخ البشرية في كفة أخرى، حيث يواجهون التعذيب كغيرهم، والتجويع والتعطيش والاعتداءات الجنسية، وأساليب التحقيق والتحقير القاسية.
وهنا أتعجب من “تفاجؤ” العالم وحكوماته المنافقة ومنظماته الإنسانية والحقوقية حيال تقارير التعذيب والاغتصاب التي يتفنن في صناعتها “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”، وينسون أن هذا الجيش هو نفسه الذي يستخدم التجويع كسلاح حرب ضد 2.3 مليون إنسان في غزة نصفهم من الأطفال! كأن التجويع حتى الموت ليس جريمة تدعو “للتفاجؤ” و”القلق” و”الغضب”.
هذا هو الجيش النازي نفسه الذي دمر كل مستشفيات قطاع غزة، ودمر كل مدارسها قبل وبعد تحويلها مراكز للإيواء والنازحين، هذا هو الجيش الذي دمر من 60% – 70% من مباني ومنازل غزة، هذا هو نفس الجيش الذي قتل 40 ألف فلسطيني خلال هذه الحرب بمختلف أنواع الأسلحة والقنابل الأمريكية، هذا هو الجيش الذي أصبح بسببه أصبح آلاف الأطفالالآخرين في عداد المفقودين.
ونحن هنا لا نتحدث عن الجيش فقط، بل نتحدث عن مجتمع الاحتلال بأكمله الذي يجمع على أن أي إساءة، بما في ذلك الاغتصاب، مسموح بها ضد آلاف الفلسطينيين الذين اعتقلتهم دولة الاحتلال في الأشهر الأخيرة، وإذا ما قررت السلطات في مسرحية سخيفة التحقيق مع بضعة جنود بتهمة اغتصاب أسير فلسطيني، ستجد آلاف الإسرائيليين يتظاهرون لأجلهم ويقتحمون المعسكرات والسجون، وسيوصف هؤلاء الجنود المغتصبين، من قبل وزراء مثل ابن غفير وسموتريتش وغيرهم، بأنهم “محاربون أبطال”، وفي النهاية يتم إطلاق سراحهم وربما سيتم تكريمهم.
وهذا الإجماع السادي لدى المجتمع الصهيوني هو نفسه الذي يرى أنه من الجيد قصف النساء والأطفال الفلسطينيين في غزة، وتدمير منازلهم وتجويعهم بالكامل. حيث تطبّعت العقلية الصهيونية بشتى أطيافها منذ عقود طويلة، على فكرة أن الفلسطينيين هم فئة أقل من البشر و”حيوانات بشرية” كما وصفهم من قبل الوزير غالانت، وأن أي إهانة أو إساءة لهم أمر مسموح به ومستحب.
كل ذلك، يعيدنا لأصل الحكاية، وهو الاحتلال، ويذكرنا بجوهر “طوفان الأقصى”، الذي سلّط الضوء بشكل أكبر على الفساد المتأصل لدى المجتمع الصهيوني الساديّ المجرم، وتذكرنا بأن رعاة هذا المشروع السرطاني في الغرب يرون أن على “إسرائيل” أن تفعل ما بدا لها ولن يردعها أحد عن الاغتصاب أو التعذيب أو التجويع. كل هذه الشهادات التي لن ننساها ما حيينا وسنخزنها على شكل ثارات في قلوبنا ونورّثنا لأحفادنا بعد أولادنا، تؤكد لنا كل يوم صوابية “طوفان الأقصى”، وأن ألف ألف طوفان لن يكفي لغسل جرائم “إسرائيل” بحق شعبنا، ولن يطفأ النيران التي في صدورنا أو يشفي غليلنا من هذا الاحتلال السافل.