رأى التحرير
وضعت عدة أسابيع متواصلة من الاحتجاجات الطلابية والشعبية في بنجلاديش نهاية لستة عشر عاما متواصلة من حكم رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد، ابنة الشيخ مجيب الرحمن، الزعيم التاريخي لبنجلاديش التي أعلنت انفصالها عن باكستان وتأسيس دولة مستقلة عام 1971. تصاعدت الاحتجاجات حتى بلغت ذروتها باقتحام المتظاهرين لمقر رئاسة الوزراء الاثنين 5 يوليو، بعد تحديهم لحظر التجوال الذي أعلنت الحكومة فرضه مساء الأحد.
ثمة خلفيات عميقة وراء هذه التطورات في بلد مليء بالتعقيدات الاجتماعية والسياسية، كما يحتل مكانة جيوسياسية بالغة الأهمية في منطقة تقع في بؤرة صراع النفوذ الدولي، فما هذه الخلفيات؟ وهل ثمة دروس مستفادة؟
رأي التحرير:
التهميش الاجتماعي والاقتصادي: خلفية الاحتجاجات
لم يكن قرار المحكمة العليا في 5 يونيو الماضي بإعادة نظام الحصص “الكوتا” في الوظائف العامة، مجرد قرار قضائي عابر، بل كان تكريسا لسياسات التهميش الاجتماعي والاقتصادي التي تقودها حكومة الشيخة حسينة وحزبها “رابطة عوامي”. النسخة الأخيرة من نظام الكوتا، الذي سبق أن أُلغي بعد احتجاجات عام 2018، كانت تخصص نحو 56% من الوظائف العامة لعدد محدود من الفئات؛ يحصل أبناء عائلات المقاتلين الذي شاركوا في حرب الاستقلال عن باكستان على 30% من تلك الوظائف، و10% للنساء، و10% للأشخاص من المناطق متأخرة النمو، و5% للسكان الأصليين، و1% لذوي الاحتياجات الخاصة. طالب المحتجون بإلغاء الامتيازات الممنوحة للفئات السابقة، باستثناء الفئتين الأخيرتين.
ينظر قادة المعارضة، والحركات الطلابية، لهذا القانون باعتباره أحد أدوات الشيخة حسينة لضمان الولاء السياسي في طبقات معينة، خاصة من أبناء المحاربين القدامى وهم أجيال لم تشهد الحرب ولا تشارك في أية أدوار وطنية حالية.
في خلفية هذا الاحتجاج؛ ثمة مشكلات أكثر عمقا وتعقيدا، فالبلد البالغ سكانه 171 مليونا، يعاني فيه شاب من كل 8 من البطالة، كما يعاني ثلثا الشباب في البلاد من عدم الحصول على وظيفة ثابتة، بينما يتنافس 400 ألف خريج جامعي كل عام على 3000 وظيفة حكومية فقط، في حين تريد الحكومة أن تخصص 56٪ منها لفئات محدودة.
فقدان الشرعية السياسية: أسباب الاحتجاج ليست اقتصادية فقط
يعتبر قطاع واسع من المجتمع في بنجلاديش نظام الشيخة حسينة فاقدا للشرعية السياسية، إذ يتسم نظامها منذ عودتها للحكم عام 2008 بسلوك إقصائي استبدادي تجاه أية قوى معارضة، لاسيما القوى الإسلامية، حيث أعدمت حكومة حسينة عددا من قيادات الجماعة الإسلامية أبرزهم زعيم الجماعة، عبدالقادر ملا، في عام 2016. كما تعرضت قيادات أحزاب أخرى غير إسلامية للملاحقة والسجن والإعدام، مثل صلاح الدين قادر تشودري، القيادي البرلماني عن الحزب الوطني الذي تتزعمه رئيسة الوزراء السابقة خالدة ضياء، والتي تعرضت بدورها للملاحقة والسجن منذ عام 2018، وأُفرج عنها فقط بالأمس بعد هروب حسينة واجد من البلاد.
هذه الحالة السياسية المضطربة دفعت بكبرى أحزاب المعارضة لإعلان المقاطعة الشاملة لآخر دورتين انتخابيتين في البلاد، آخرهما في يناير الماضي، حيث شهدت الانتخابات تراجعا كبيرا في نسب الإقبال إلى نحو 40%، وهي نسبة تعتبر منخفضةً للغاية مقارنةً بالانتخابات السابقة في 2018، حيث بلغت نسبة التصويت نحو 80% من الناخبين. فضلا عن أحداث عنف واعتقالات شهدتها الانتخابات، طالت الاعتقالات نحو 20 ألفا من أنصار الحزب الوطني المعارض وحده.
هذا التوتر السياسي العميق في البلاد، والانشطار المجتمعي الذي أحدثته سياسات حسينة واجد، مهد الطريق أمام قطاع واسع من الشباب لشعورهم بفقدان المشروعية السياسية للنظام، واستعدادهم للخروج في احتجاجات ذات مطالب راديكالية مثل “إسقاط النظام” وليست مجرد حركة مطلبية ضد صياغة قانون معين، وهذا ما يفسر عدم قدرة الحكومة على محاصرة التظاهرات على الرغم من تراجع المحكمة العليا في 21يوليو عن قانون “الكوتا” الذي كان السبب الظاهر لاندلاع الاحتجاج.
بنجلاديش في قلب صراع النفوذ الدولي: أبعاد أخرى غير محلية
رغم صغر حجم بنجلاديش وضعف مقدراتها الاقتصادية، إلا أن موقعها الجغرافي على خطوط التماس بين القوى الدولية الكبرى قد أكسبها أهمية جيوسياسية كبرى، ازداد تعاظمها بعد الحرب الروسية الأوكرانية، كما يزداد عاما بعد عام في ظل تصاعد الحرب الباردة الصينية – الأمريكية.
تعد بنجلاديش، بشكل رئيسي، أحد مناطق النفوذ الهندي في جنوب آسيا، ولهذا النفوذ أسباب تاريخية تتعلق بإسناد الهند لبنجلاديش في معارك الانفصال عن باكستان، ومع ذلك تحاول الصين وروسيا استقطاب بنجلاديش وزيادة نفوذهما في هذا البلد الصغير.
سعت الصين إلى تعزيز حضورها في بنجلاديش، بالاعتماد على الأداة الاقتصادية المتمثلة في “مبادرة الحزام والطريق”. وقد انضمَّت بنجلاديش إلى المبادرة في 2015، وحظيت باستثمارات صينية وصلت إلى قرابة 25 مليار دولار.
الولايات المتحدة أيضا، بعد الإعلان عن استراتيجية ما وراء المحيطين الهندي والهادئ، اتجهت لتوسيع الشراكة الاستراتيجية مع مختلف دول جنوب آسيا ومن بينها بنجلاديش، وعدم قصرها على باكستان والهند. فكانت بنجلاديش من أكبر الدول المتلقية للمساعدات الأمريكية في آسيا، فضلا عن اعتماد اقتصادها، في جزء كبير من مصادر تمويله، على العوائد القادمة من صادرات البلاد إلى السوق الأمريكية.
ولم يفت روسيا المشاركة في هذا السباق الجيوسياسي نحو بنجلاديش، حيث مولت روسيا المحطة الوحيدة للطاقة النووية في بنجلاديش. بقيمة 12.65 مليار دولار أمريكي، تتحمل موسكو 90% منها، عبر قروض تغطي غالبية تكاليف إنشاء وتطوير المحطة.
هذا التنافس الدولي علي اكتساب النفوذ في بنجلاديش أكسبها حضورا بارزا في التفاعلات السياسية الدولية، على سبيل المثال ظهر التأثير السياسي الكبير لموسكو لدى صانع القرار في دكا، بشكل لافت، عندما امتنعت عن التصويت على مشروع قرار أممي يدين العملية العسكرية الروسية علي أوكرانيا، من بين 35 دولة فقط امتنعت عن التصويت.
كما اعتمدت بنجلاديش في 17 أبريل الماضي، اتفاقا يتم بموجبه اعتماد “اليوان” الصيني لسداد القرض لبناء محطة “روبور” للطاقة النووية. وسيستلم الروس المدفوعات باستخدام نظام الدفع الصيني عبر الحدود بين البنوك CIPS، وهو بديل لنظام SWIFT لمدفوعات اليوان، وهو ما يمثل تحديا للعقوبات الأمريكية.
من جانب آخر؛ افتتحت رئيسة الوزراء البنغالية المستقيلة، قاعدة غواصات بنتها الصين بقيمة 1.21 مليار دولار أمريكي في كوكس بازار، توفر رصيفا آمنا للغواصات والسفن الحربية الصينية.
اتهامات دولية متبادلة بدعم المعارضة في بنجلاديش
في 22 نوفمبر 2023، وجهت وزارة الخارجية الروسية اتهامات مباشرة وعلنية للسفير الأمريكي لدى بنجلاديش بتدخله في الشؤون الداخلية للبلاد، حيث أكدت أن السفير الأمريكي التقى ممثلاً رفيع المستوى للمعارضة المحلية في نهاية أكتوبر، وأنهما ناقشا خططاً لتنظيم احتجاجات حاشدة مناهضة للحكومة البنجلاديشية، مما دفع الخارجية الأمريكية في نفس اليوم للرد علي الاتهامات باتهامات متبادلة. كما ظهرت في الأيام الماضية عدة تقارير غربية تتهم الصين بدعم حركة الاحتجاج في بنجلاديش عبر جماعات صينية عاملة في باكستان مرتبطة بالحركات البنجالية المعارضة.
والحقيقة أنه بصرف النظر عن صحة أي من الاتهامات فإنها تعكس في المجمل هشاشة الأوضاع الداخلية في بنجلاديش، وعمق الصراع الدولي علي النفوذ فيه.
ثم ماذا بعد؟ هل ثمة دروس مستفادة؟
لا شك أن في تجربة التغيير في بنجلاديش والتي أطاحت بنظام قمعي دموي كان يُنظر إليه باعتباره نظاما مستقرا عدة دروس غاية في الأهمية، خاصة لنضالات الشباب العربي في سياقات استبدادية شبيهة بحالة بنجلاديش. أول هذه الدروس هو استمرارية النضال، حيث لم تكن تظاهرات العام الحالي أول تظاهرات احتجاجية تنشب ضد سياسات الشيخة حسينة، بل ثمة تراكم نضالي امتد لسنوات طويلة تصاعد حتى بلغ هذه الذروة، ومن محطاته المهمة حراك 2018، الذي كان بمثابة خطوة مهمة في مسيرة هذا التغيير. وثاني الدروس، هو الدور المهم للروابط الطلابية والشبابية في قيادة حركة الاحتجاج، حيث بدأت شرارة الاحتجاج من جامعة دكا، وانضمت إليها لاحقا باقي الجامعات وطلاب المدارس الثانوية لتتحول حركة الاحتجاج إلى حركة شعبية واسعة، وهو ما يضع أهمية بالغة لتطوير مثل هذا النوع من الروابط وتحدي كافة المعوقات التي تحول دونه، وثالث الدروس هو أهمية الأجندات الوطنية المشتركة في إلهام حركة الشعوب وتجميع قواها، وتجاوز الخلافات الأيديولوجية في سبيل القضايا الوطنية الكبرى.