أدب
هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن عبادة البكري النويري، شافعي المذهب، الشيخ الفقيه المؤرخ الأديب، المولود في عام 677 هــ، والمتوفى 733هــــ وعلى هذا الكثرة ممن أرخوا له مثل المقريزي، وابن تغري بردي، وابن حبيب والسيوطي، ينسب لقرية النويرة في مصر من (قرى محافظة بني سويف)، وقد ولد ونشأ في قوص، وفيها حفظ القرآن الكريم، وتعلم الحديث النبوي، “وهي يومئذ من أعظم البيئات العلمية بالديار المصرية[1]“.
كان والده من علماء المالكية، أما النويري فاختار مذهب الدولة فكان فقيهًا شافعيًّا، أوصى به رافع بن عبادةعند السلطان قلاوون، وشفع له شفاعة حسنة، وقدمه عند السلطان، وأثنى على مواهبه حتى وكله السلطان قلاوون ببعض الأعمال، فأظهر تفوقًا وإجادة حتى ترقى في المناصب، وعلت مكانته وانخرط في خدمة الديوان، وصعد نجمه وأُعليَ شأنه؛ فتقلد مناصب ومهام أخرى، ورغم ذلك كان هواه مع الأدب والشعر، ومن مفارقات الزمان أنه قد حسده ابن عبادة رغم أنه هو الذي أوصى له عند السلطان قلاوون، لكن لما صارت بينهما جفوة وخلاف، وترقى النويري دون رافع فوشى عليه، وعوقب النويري حتى ضرب بالمقارع، ولم يجد دافع ولا شافع، ضاقت نفس النويري بالأعمال الوظيفية والحكومية، وعافها واستوحش منها وحشة الغريب عن منبته، كعادة كل أديب لا تروق له الوظائف وينفر منها، يقول عنها في مقدمة كتابه:” ثم نبذتها وراء ظهري، وعزمت على تركها في سري دون جهري”.
فأغناه الله وكان العلم وقاء له من الفقر والاستجداء؛ فعمد إلى صحيح البخاري فكتبه بخطه ثماني مرات وباع كل نسخة منه بألف درهم، وعمل وراقًا ينسخ الكتب ويبيعها، جمع ثقافة أدبية وطالع من كتب الأدب ما طاب له أن يطالع، واتسع عقله بأخبار الشعراء وأيام العرب والشعر والأدب والفنون على كثرتها، وجمع له من أشتات العلوم وفاق أقرانه في الإنشاء، هيأت مصر له بيئة مناسبة لطلب العلم إذ كانت مصر ومعها الشام موئلًاللعلم بعد سقوط بغداد، عكف على صناعة الآداب، ونبذ كل أمور السياسة وراء ظهره، ورغم ذلك لم نسمع أنهدرس أو حاضر لغضبة السلطان عليه، قال عنه الأفودي:” كان فقيهًا فاضلاً ومترجمًا بارعًا له مشاركة جيدة في علوم كثيرة[2])”، ولما اجتمع له من العلوم ما تميل إليه النفوس وتشتمل عليه الخواطر، بدأ في تنقيحها وتبويبها وتنظيمها في دائرة معارف لتكون سجلًا وسفرًا له يرجع إليه؛ فعكف على موسوعته التي نالتشهرة علمية، وتوفي رحمه الله عام 733هـ.
عصر النويري عصر الموسوعات (العصر المملوكي):
بعد وفاة الملك الصالح نجم الدين الأيوبي والفترة العصيبة التي مر بها العالم الإسلامي عام648، وحين تدارك الله العالم الإسلامي برحمته وقيد له المماليك، تلك الأمم التي كانت تقطن بلاد ما وراء النهر وتركستان، لتسد مسد الأيوبيين وتقاتل عن الإسلام والمسلمين، ولم يلبث الحكم للمماليك في الديار الإسلامية والشامية قد استقر، وكان الحكم بينهم للأقوى؛ فقد كانوا أهل حرب وأصحاب بأس، ونرى أن الظاهر بيبرس لما أراد أن يجعل الحكم في ذريته، غلب على الحكم السلطان قلاوون، وكان حقيقًا بالسلطنة وأهل لها، فقد سد خطر المغول في الشام وواصل ما بدأه السلطان قطز، وكان يصد هجمات الصلبيين، كان رحمه الله من المماليك العظام تولى سنة 678هـــ، ولم تمض سنوات من حكمه حتى هاجم طرابلس وانتزعها من الصليبين انتزاعًا، وكان في إثر تحرير عكا حتى وافته المنية وفي عهد الناصر محمد بن قلاوون، تهيأت لمصر القوة، وتهيأ لها السلطان القوى؛ فأصبحت اليد العليا في العلم والفكر وازدهرت وأينعت العلوم، وأصبحت موئل العلماء، حلت مكانة بغداد زعامة روحية وسياسية؛ فكانت يشد إليها الرحال.
وفي هذه البيئة نشأ النويري وتعلم، عاش في بوتقة من العلم والفكر، وفاقت مصر في العلم والأدب على كل نظيراتها، وقدمت نموذجًا من الحضارة الإسلامية الأصلية، وكانت الأخوة الإسلامية بين العلماء تزيح فروق العرق واللون والقومية، فكل عالم حاذق يضرب أكباد الإبل لمصر، حيث كانت القاهرة تزدحم بالمكتبات في شتى الفنون، تقلب البصر فما ترى مدارس ومساجد هنا وهناك، وكانت المدراس بالمجان لطلاب العلم، وكان هؤلاء الطلاب لهم نفقه وطعام وكسوة، وكان يبدأ الطالب العلم بالعلوم الإسلامية يحفظ القرآن أولًا، ثم يدرس الحديث والفقه على أحد المذاهب الأربعة، وكان من أبرز المدارس المدرسة الناصرية في القاهرة التي أنشأها السلطان قلاوون، وهي التي تعلم بها النويري وأقام في المساكن الملحقة بها، وقد أفاد من مكتبتها في تأليف موسوعته نهاية الأرب.
ولم تقتصر مكانة العلماء والفقهاء في العصر الملوكي على التعليم فقط، بل كانوا يقومون بدور المصلحين، بل كانوا يجاهدون بأنفسهم الصلبيين والمغول، ويحملون السلاح، ويسدون الثغور، ورغم ذلك كانوا عبادًا زهادًا، وعلماء الدولة المملوكية وسلاطينها مازال ذكرهم حاضر باقي، وآثرهم ممتدة في أهل مصر حتى اليوم، وهكذا كان العصر الذي عاش فيه النويري عصرًا ماجدًا، حياة تتسم بالتنوع، وكان لها أثرها في موسوعة النويري نهاية الأرب في فنون الأدب.
بواعث تأليف الكتاب:
لما قرأت مقدمة نهاية الأرب ـــــ وقد جعلها النويري في ست وعشرين صفحة ــــ يبين أنه لم يكن مهتما بفنون الأدب في أول الأمر، وإنما اهتم بصنعة الكتابة، وكتابة الديوان والتصرف وهي وظيفة حكومية، ومنها ترقى لمناصب عليا كما ذكرنا في ترجمته وحين أراد اعتزال السياسة، كان هذا الاعتزال منعطف التحول في حياة النويري، وكأنها من صفعات الزمان التي قادت إلى الخيرات.
بعد تركه السياسة وأعمالها اتجه إلى الأدب، وشغف به، وخالط كتبه حتى جرت منه مجرى الدم، وواظب على لقاء أهل الفضل والأدب، وانتظم في سلكهم، وقد بذل من الجهد وأنفق من الوقت ليقتحم هذا الميدان، يقول فيمقدمة كتابه “امتطيت جواد المطالعة وركبت في ميدان المراجعة وحيث ذل لي مركبها وصفا ليمشربها؛ آثرت أن أجرد منها كتابًا أستأنس به وأرجع إليه وأعول _ فيما يعرض لي من المهمات_ عليه، فاستخرت الله سبحانه وتعالى، وأثبت فيها خمسة فنون، حسنة الترتيب بينة التقسيموالتبويب، كل فن منها يحتوي على خمسة أقسام[3]“.
النويري كان يُنشئ دائرة معارف، يرجع إليها متى شاء، فكانت نهاية الأرب وكان النويري يريد أن يمد سلسلةمن سبقه بموسوعته إذ يقول: “تبعت فيه آثار الفضلاء قبلي، وسلكت منهجهم، فوصلت بحبالهمحبلي” وكان يتطلع إلى حصول التسلي والأنس والمتعة بمطالعة ما أورده في الكتاب، والاعتماد على هذه المادة العلمية إذا احتاج إليها في نطاق صنعة الكتابة، ولا أخفيكم أنني أول ما قرأت المقدمة حسبت أن النويري قد ألف هذه الموسوعة العلمية لنفسه، ومن ثم تبين لي عكس ذلك لما مضيت في القراءة إذ يقول: “وما أوردت فيه إلا ما غلب على ظني أن النفوس تميل إليه، وأن الخواطر تشتمل عليه[4]“. فقد كان يكتب كتابًا تميل إليه النفوس، وتنتفع به؛ فرحم الله شهاب الدين النويري صاحب نهاية الأرب في فنون الأدب الذي ترك للمكتبة العربية موسوعة تُفاخر بها الأمم، حوت علمًا وافرًا وأدبًا كثيرًا.
[1] د. عبد اللطيف حمزة، القلقشندي في كتابه صبح الأعشى ص20
[3] السابق 3
[4] السابق 25