لا يخفى على أحد الدور الروسي في تثبيت الكيان الصهيوني في بداية نشأته، فقد سارع الاتحاد السوفيتي آنذاك الاعتراف به بعد فترة وجيزة من إعلان قيامه، مع دعمه بالسماح بتوافد أعداد من اليهود الروس وفق هجرات منظمة إلى فلسطين، ومع اشتداد حدة الصراع داخل الأراضي العربية الفلسطينية بين الشعب الفلسطيني والعصابات الصهيونية، نشبت حروب الأعوام: ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧، ١٩٧٣، ١٩٨٢ عانت الجيوش العربية من انتكاسات و هزائم مدوية أمام جيش الاحتلال الإسرائيلي، بسبب الدعم البريطاني والفرنسي والأمريكي اللامحدود لإسرائيل، اللهم إلا حرب الكرامة سنة ١٩٦٧ بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين من جهة والجيش “الإسرائيلي” من جهة أخرى، وحرب رمضان أكتوبر ١٩٧٣ مع الجيش المصري لردع الكيان ومنعه من التوسع على حساب الأراضي العربية، حيث غيرت تلك الحروب مفهوم الصراع العربي الإسرائيلي إلى يومنا هذا .
وعند بزوغ القوة الاشتراكية متمثلة بالاتحاد السوفيتي، والرأسمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، اتخذت روسيا بعض المواقف السياسية التي تتسم بالحيادية المتأرجحة من القضية الفلسطينية، للحد من التدخل الأمريكي المتنامي في الشرق الأوسط والذي شرع بإنشاء قواعد عسكرية له في العديد من دول العالم، ومن ناحية أخرى عمد الاتحاد السوفيتي إلى انتهاج نهجاً مناكفاً للتواجد الأمريكي والأوروبي المتمدد في العالم. فالمصالح الروسية أوجدت حالة من الندية للغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، تهدف إلى تقويض فرص اتساع الهيمنة الأمريكية على العالم.
وبعد طوفان الأقصى؛ اتخذت الدولة الروسية موقف الرفض من الاعتداء ” الإسرائيلي” على المدنيين في قطاع غزة، ورفضت القرارات الأمريكية فيما يخص حرب الكيان المحتل على غزة في مجلس الأمن والتي تؤيد العمليات العسكرية ” الإسرائيلية” الوحشية في القطاع، ودعت عن طريق مندوبها في مجلس الأمن إلى إدخال المساعدات الإنسانية من غير قيد أو شرط، واتهمت الولايات المتحدة بالتواطؤ مع ” إسرائيل” في الإبادة الجماعية الحاصلة في غزة، وأبدت استعدادها لرعاية مفاوضات حل الدولتين لتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة العربية، ولم تكن متحفظة في فتح أبوابها واستقبال الطرف الفلسطيني سواء السلطة الوطنية الفلسطينية أو حركة حماس وباقي الأطراف الفلسطينية.
وما الحرب الأوكرانية الروسية ببعيدة عن ذلك الصراع، فقبل تفكك الاتحاد السوفيتي كانت أوكرانيا جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الروسية، وبعد انهياره أصبحت أوكرانيا والعديد من المدن التي كانت تنضوي تحت مظلة الاتحاد السوفيتي دولاً مستقلة ذات سيادة، انتهز الغرب ذلك الحدث الكبير بالاعتراف بها كدول مستقلة، وإدخال بعضها إلى الاتحاد الأوروبي والنيتو لقطع الطريق على روسيا وعدم تمكنها من استعادة تلك الدول تحت سيطرتها، ودعمتها وقدمت لها وعوداً اقتصادية واستثمارية وتنموية في شتى المجالات، وشرعت لها أبواب العولمة لتصبح شوكة في حلق روسيا وأوكرانيا واحدة من تلك الدول المجتزأة من الاتحاد السوفيتي سابقاً بل على رأسها، وبدعم غربي أمريكي في تحد صريح للدولة الروسية.
فالمخطط الغربي في منطقة القوقاز ينفذ بواسطة أوكرانيا، وروسيا تدرك ذلك وبالأحرى الرئيس بوتين، فالنفوذ الأورو – أمريكي سيتعاظم ويتسع إذا ما رجحت كفة الحرب لصالح أوكرانيا، والتواجد الغربي على الأراضي الأوكرانية سيزداد للحفاظ على مصالح الغرب، والدعم اللوجيستي والعسكري المتواصل لأوكرانيا المتحالفة مع الغرب، من أجل ضمان وجود قواعد غربية في أوكرانيا لخنق روسيا وتكون اليد الضاربة للغرب إذا تهددت مصالحه الاستراتيجية، وذريعة لإيجاد موطيء قدم له في منطقة البحر الأسود والتحكم في تلك المنطقة الحيوية من العالم.
العلاقات الأوكرانية ” الإسرائيلية” لم تبدأ منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، بل علاقة أوكرانيا بدولة الاحتلال وثيقة الصلة قبل قيام الكيان المحتل، فقد كانت روسيا و أوكرانيا من أكثر الدول التي ترسل مقاتلين متطوعين للإنضمام إلى جيش الاحتلال كمرتزقة، والقتال في صفوف قوات الجيش ” الإسرائيلي”، فقد قاتل ولا يزال العديد من المرتزقة الأوكرانيين في غزة، وتورطوا في قتل الفلسطينيين في غزة وغيرها من الأراضي الفلسطينية، فلنا أن نتصور أعداد المرتزقة ومساهمتهم في حرب “إسرائيل” على غزة، وهذا مثال فج عن تلك المساهمة المخزية، ففي قناة أوكرانية تم عرض برنامج محلي اعترفت فيه مجندة أوكرانية سابقة في جيش الاحتلال الإسرائيلي بقتل أطفال فلسطينيين بكل جرأة وبدم بارد وقد اعتلت وجهها ابتسامة صفراء وهذا غيض من فيض. أما على المستوى الرسمي فالاعتراف ” بإسرائيل” من قبل أوكرانيا قديم جداً، وامتد إلى توطيد هذا الاعتراف بإبرام تسع اتفاقيات توأمة بين مدن أوكرانية وأخرى ” إسرائيلية” فعلي سبيل المثال: ترتبط خاركيف مع ريشون لتسيون باتفاقية توأمة منذ ١٩٩٠، أوديسا مع حيفا اتفاقية توأمة منذ ١٩٩٠، وزاباروجيا مع أسدود باتفاقية توأمة منذ ١٦ أكتوبر ١٩٩٧.
وترسخت العلاقات الأوكرانية “الإسرائيلية” خاصة بعد صعود زيلينسكي الممثل الهزلي ذو الأصول اليهودية سدة الحكم في أوكرانيا، ومع هذا الصعود قويت العلاقات الأوكرانية-“الإسرائيلية” والأورو- أوكرانية وبالطبع العلاقات مع الولايات المتحدة. وإذا تفحصنا سر الارتباط الأوكراني بنظيره ” الإسرائيلي” لوجدنا شخصيات أوكرانية ذات أصول يهودية كان لها ثقل سياسي وعسكري في دولة الاحتلال نذكر أبرزهم: اسحق رابين، جولدا مائير، موشيه دايان، وحالياً وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش والعديد من الشخصيات.
أما الموقف الأوكراني الحالي خاصة بعد عملية طوفان الأقصى أعلنت الخارجية الأوكرانية دعمها الكامل للعمليات العسكرية ” الإسرائيلية” في القطاع، حيث وصمت عملية طوفان الأقصى”بالهجمة الإرهابية”، أما الموقف الروسي فقد دعا إلى وقف إطلاق النار وتغليب لغة الحوار والدبلوماسية، ولم تعمد إلى إدانة أي من الطرفين لا حماس ولا الكيان المحتل، لكنها حملت الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية الأحداث في غزة وتأييدها الممارسات العدوانية الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين. وقد شعرت الفصائل الفلسطينية بحيادية الموقف الروسي فطلبت أن تكون روسيا أحد الضامنيين الدوليين في صفقة تبادل الأسرى مع الكيان الصهيوني، دليل على الثقة بالدور الروسي المعتدل نوعاً ما من القضية الفلسطينية.
إن الواقع في ميزان حرب غزة يشي بأن غزة ومعاناتها قد تشكل ورقة رابحة في ميزان الحرب بين أوكرانيا وروسيا لكلا الطرفين، فإذا تمكنت دولة الاحتلال من غزة وحققت أهدافها بالقضاء على المقاومة، سيضمن الغرب الانتهاء من كابوس تهديد أمن واستقرار ” إسرائيل”، التي هي عينها على المنطقة العربية، أما السيناريو الثاني والذي يقول بهزيمة ” إسرائيل” سيكون بمثابة إضعاف للدور الأمريكي وحلفائه في المنطقة وهذا سيتيح المجال لروسيا أن تعزز من عملياتها العسكرية في أوكرانيا وقد تأخذ بزمام الأمور هناك، وسيتراجع الدعم الغربي لأوكرانيا بسبب الخسائر التي منيت بها “إسرائيل” وستضمن روسيا إحكام سيطرتها على البحر الأسود وسيتسع نفوذها هناك، ويصبح لها منفذاً تطل به على المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط.
وعلى كل حال فإن أمن واستقرار ” إسرائيل” الجوهر الذي تتفق عليه الدول المهيمنة في العالم، وربما التغيرات التي قد تطرأ في الحرب الأوكرانية الروسية ربما تسهم في تراجع بعض الدول عن دعم الاحتلال الصهيوني ولو بصورة ظاهرية، فما نشاهده من التهديد والتهديد المقابل بين الجانب الروسي والغربي، قد يجعل لغزة طريقاً للخلاص من العدوان “الإسرائيلي” الظالم.