دائمًا ما أعشق العلاقات الأسرية والحديث عنها وكيف لها أن تكون في إطار يملأه الأُلفة والأنس دون ذلك القالب الذي لا طالما صَدّرته لنا السينمات في بُعد الآباء عن أولادهم . دارت نقاشات مع صديقة لي في سؤال كيف علي الأب أن يكون؟! هل الآباء يجب أن يكونوا أصدقاءً لنا؟ أم يكونوا ذا وجه صارم لا يعرف الحنان والأُنس أم عليه أن يكون هيناً ليناً؟!
هذه الصورة الأسطورية التي رسَمتُها في مخيلتي عن الآباء باتت مَحضُ هُراء بعدما رأيت محمد العالول الصحفي الفلسطيني مفطور القلب مرفوع الرأس؛ لأول وهلة شعرت بالنفور من نفسي حين غفلت عن اسمه ومن كان، تُفقدنا تلك الدنيا ما تبقى من إنسانيتنا ونتغافل عن أنه ربما دورنا قادم عما قريب.
محمد العالول؛ فقد أربعة من أولاده وإثني عشر فرداً من عائلته، كيف لألم كهذا أن يُنسى! أحببت مُحمد وأولاده، محمد خرج عن الإطار الأسطوري الذي لا طالما كان متلاصقًا في أذهاننا لكل غزاوي.
بَكى على أولاده وكأنه لم يبكِ قط، تمنيت لو التقيت بهم، أحببتهم من حديثه عنهم؛ أربعة أولاد ولكنهم كانوا خير .ثمار لحصادٍ جميل سيبقى معه أبد الدهر. كيف لولده الصغير الذي ظل على قيد الحياة أن يكمل حياته؟ لا أستطيع أن أجزم أنه كان من سعيدي أو تعيسي الحظ! كيف لهذا الطفل أن يكبر بكل ذلك القدر من الحقد والثأر؟ الثأر لإخوته الذين حرمه الاحتلال منهم؟!
أمْ لعزوته عائلته الكبيرة؟ أم لوطنه المحتل الذي سيكبر بعيدًا عنه؟ أم على شجر البرتقال والزيتون الذي لن يتذوقه؟! أم ثأرا لدموع والديه التي لن تجف أبدًا؟ كيف يمكن أن يكبر أو حتى يتنفس؟! .. ولماذا لا نقول أنه سيملأه الشيب قبل الشباب.
أنهى العالول لقاءه بأنه لن يعود للعمل الصحفي السياسي مرة أخرى ، لم أتوقع ذلك الجواب أبدًا فلأول مرة يَعدِل أحدهم عن عباءة الرجل الخارق ويتخلى عن السبب الذي كان له يد في رحيل أولاده عنه. يترك العالول الصحافة استجابة لأمنية ابنته التي لا طالما قالت” استقيل يا ابا وضلك معنا”.
لا يستطيع العالول أن يعيد ابنته الوحيدة إلى كنفه ولكن ربما يستطيع أن يحقق لها آخر أمنيةٍ طَلبتها منه.. كسر العالول قالب الأب الصارم الذي رسمه التاريخ لنا ، أنه يمكنه أن يبكي ويتألم ، أن يكون ضعيفًا وأن يعيش ألمه.
حكايات الآباء لا تقل ثُقلًا عن دوي صرخات الأمهات؛ أبٌ لم يهنأ حتى بقبلة الوداع لأولاده فطلب من آخر أن يقبلهم بدلًا منه؛ حالت ظروف غزة أن يعيش هناك بين أولاده وزوجته أن يرى ميلاد ابنه وصرخته الأولى، لم يلمس أصابعه النحيلة ولم يقبلها، ولم يتجادل مع زوجته هل أنفه لي أم لك؟ سيكون طويل لي أم قصير لكي ؟! فلم تكتف الأقدار بحرمانه من رؤيته في ميلاده، فرحل دون ترحيب أو وداع.
ألم ليس بمثله ألم.. كل من في غزة يرفض الإستسلام والخضوع والرحيل عن أرضه فما بالك إن كان الرحيل في تلك الساعة رحيل فلذات أكبادهم فهل سيكون القرار سهل؟! يحمل ذلك الرجل ولده على كتفيه كما اعتاد أن يفعل مُذْ كان رضيعاً، يرفض أن يضعه من على كتفيه وكأنه يريد أن يستمتع للمرة الأخيرة بهذا الثُقل الذي لا طالما آلم عضلاته ، يرفض أن يكفّنه ويواريه الثرى، وكأنه يعاند القدر على ما أصابه من فقد إن لم أكَفنه هل ستعود له الروح ولو لدقيقة سأقول كلمات الوداع وأٌسمعه صوتي للمرة الأخيرة فليكن وداع ولدي يليق بجمال قلبه ليس وداعاً مبتوراً كقلبي.
نظن أن الأب عليه أن يكون أسطورة ؛نعم لم يُخلق من ضلع أعوج والقوامة فيهم مهما تحدثنا ولكن آلام قلوبهم تطغى على كل ذلك. فلتتركوا عباءة الرجل الخارق فألمكم منا وفينا. أعتقد أن شعار الأبوة ممكن أن نختصره في أنه إن لم أستطع أن أعيدك إلى أحضاني فمن الأفضل أن يضمنا عناق طويل في ثوب أبيض نتنعم فيه دون فراق ..
لا سامح الله من كان له يد في قهر رجال غزة فرج الله همومهم وأعانهم علي آلام ثكلهم .