سياسة

انتقاءُ المعارك، وادّخار الغضب 

يوليو 16, 2024

انتقاءُ المعارك، وادّخار الغضب 

يبدو أننا نحمل إقرارًا جماعيًّا بكمون غضبٍ ضخمٍ تراكم لعقدٍ وأكثر في صدر كل مواطنٍ في هذا البلد المسكين، وأن حالاً لم يسبق أن مرّ عليهم منذ حملة “الملّيم من أجل الحفاة” وقت الحكم التركي يدهسهم الآن، ويدهسنا معهم، دون أفقٍ قريبٍ يلوح به مخرج أو بادرة تخفُّفٍ مهما كان ضئيلاً، بل يقول أمثالي بأنّ الرعب الحقيقي الذي أحدثته جرائم السلطة لم يتكشّف بعد، وقادم أيّامنا – إن لم يكن حلٌّ جذريّ – أسوأ كثيرًا من سابقها ما استمرّت هذه السياسات وسائسوها في بيع الوطن وتصفية أصوله بالقطعة لكلّ من هبّ ودب، وتسليمه لاحتلالات متعددة الجنسيّات دون قتالٍ أو إدراكٍ أن احتلالاً يقوم.


هذا الغضب المسلّم بوجوده، والمختلف على توقّعات تفريغه، تنفيثًا أو تفجّرًا، بغتةً أو تراكمًا، مُهَدَّدٌ كما هو مُهَدِّد.. مُهدَّدٌ بالمغافلة؛ ادّعاءًا وجريًا في المكان، كأن تُنفخ بالونة هنا أو هناك ثم يُتخلّص منها بمشاهد استعراضيّة غرضها إيصال رسالة للجمهور ” نحن مسيطرون، ولنا السطوة الكاملة”، ويبدو أن قطاعًا عريضًا من جمهرة المستهدفين “تتلكّكُ” لتستقبل مثل هذه الرسالة وتتعاطى معها كما يُراد من مرسليها، ارتعابًا علنيًّا وفزعًا شبه جماعيّ. 


والغضبُ إن لم يُدّخرُ كما يجب، ويوجّهُ حيث يجب، ربّما أكل حامليه أو أقربَ المستضعفينَ منهم، وتغافلَ عمّن يستحقُّه إلى من سواه، ظالمًا أقلّ درجة أو مظلومًا في غير ذات المعسكر، والراجحُ أن يأكل المستضعفون بعضهم كلٌّ في حلفه الضيِّق بعد أوّلِ الفورة العشوائيّة المرتبكة.


والمتابعُ لما جرى مع “شهد” لاعبة منتخب الدرّاجات، مثلاً، يجدُ تحوّل فتاة مُخطئة/مخالفة أو حتى ارتكبت جُرمًا، إلى كيس ملاكمة لمجتمع غاضب ومشحون، لأسباب لا تخصّ شهد، ولعلّها ضحيّتها التمثيليّة نظرًا لما ترسّخ في ذهنها مما تشاهده من ممارسات السلطة وإعلامها وأجهزتها ومسئوليها ورياضيّيها.


ويتفرّغ شيءٌ من الغضب بسبب تضخيم الرمز ولو كان سلبًا، وتضخيم التعاطي معه هجومًا وتأسّيًا وحسرة، واستمرار ذلك حتى بعد حسم موقفها بالاعتذار والاعتزال، ولو كان مؤقتًا أو انفعاليًّا كما أتوقّع.


أقدّر الترميز، ومحاربة الفكرة فيما/من يمكن محاربتها بهم، لكنّي أشعر بسفهِ الاستهبال، والتشعلق بأوهام الانتصارات الزائفة. احتفالات اعتزال شهد خوّفتني، وأحبطتني كثيرًا، إذ كيفَ يحتفي الآلاف باعتزال صبيّة مهما بلغ جرمها، ويتناسون أنّ الفساد الذي أبقاها بعد الواقعة قائمٌ كما هو، ومنطق البلطجة الحاكم في كلّ مفصلٍ ورأسٍ يترسّخُ يومًا بعد الآخر، والمنظومة التي تستعدّ للتضحية ببعضِ صبيانها حفاظًا على رءوس الأفاعي أو الصبيان الأكثر حظوة مازالت تتضخّم وتخرجُ لسانها للشعب ومستقلّ إعلامه وحقوقيّيه وبقايا سياسيّيه في كل واقعة تزلزلهم.


ألم يحتفِ ذات الجمهور برحيل شوبير ودعبس، ونسوا “دياب” في واقعة قتل أحمد رفعت قهرًا؟ ألم يهلّلوا لانتصارهم الساحق التاريخي قبل 13سنة برحيل مبارك وتناسوا أن شعارهم كان “إسقاط النظام” فسحقهم بعدها ما تجاهلوا عنه؟ أليس الأجدى انتقاءُ المعارك، ومحاربة الفساد في صوره الفاضحة التي يتجابنُ الكثيرون عن مواجهتها، وادّخار الهبّة على “البلطجة” الحقّة التي تحكمنا غصبًا، وتعطي قدوةً يوميّة بإمكانيّة الوصول والبقاء والترقّي فقط “بالدراع”؟


أخطّيءُ شهد فيما ارتكبت، لا جدال، لكنّي أخشى على الغضب الذي تراكم سنينًا بانتظار التفجّر في وجه مسبّبيه أن يتسرب هنا وهناك في تافهِ المعاركِ ويتوارى خلف واهم الانتصار، إن تحقّق!



 

شارك