آراء
في إحدى المؤسسات المشهورة في إحدى دول الخليج العربي، أُقيم حفل كبير للاحتفاء بمرور عشرين عامًا على تأسيسها، فعُرض فيلم قصير عن الإنجازات، والتوسعات، وبعض الصور التي تحكي سيرة هذه المؤسسة. وكان في الصفوف الخلفية، بعض الموظفين القدامى من المتقاعدين الذين يعرفون حقيقة مسيرة هذه المؤسسة، فقد أُغلقت ثلاث مرات سابقًا، وحصلت أخطاء جسيمة كادت تُفلسها، وأنّ نهوضها الحالي جاء بعد إقالاتٍ مؤلمة وقرارات قاسية لم يُذكر منها شيء، فانتهى الحفل، وخرج الجميع بشعورٍ جميل، لكن بعد أشهر، تكررت الأخطاء نفسها، لأنّ أحدًا لم يجرؤ يومًا على رواية القصة كاملة .
كلنا يعلم أنّنا عند الحديث عن ذاكرة الشعوب و الأمم نجد أنّها ليست سجلًا بريئًا للأحداث والأخبار، بل تخلق بناءً معرفيًّا ومعنويًّا معقّدًا، فُتعاد بها تشكيلة تاريخ الأمة وذكرياتها كلما تغيّرت موازين القوة أو تبدّلت الحاجات النفسية للجماعة أو الشعب أو السلطة، فالأمم، كالأفراد، لا تتذكّر كلّ ما عاشت، بل تختار بوعيٍ أو بدونه ما يصلح لأن يكون قصةً تُروى، وتتجنب الحكايات المريرة الواجب التطرق لها من أجل بناء منظومة إصلاح حالي ومنظومة بناء مستقبلي.
فمنذ أقدم العصور الأزمنة الغابرة، لم يكن التاريخ مجرّد تسلسل وقائع أو أحداث، بل أداة لبناء معنى سامي، فالإمبراطوريات المنتصرة كتبت تاريخها بوصفه مسارًا حتميًا للصواب، فيما حُشرت الهزائم في الهامش واختفى ذكرها، أو أُعيد تفسيرها كـ«ابتلاءات» أو «مؤامرات» ليس لنا فيها شأن! فإن لم يكن ذلك تزويرًا فما هو التزوير إذاً؟ ما تلك إلا محاولة لرسم صفحة بيضاء بالقوة لتاريخ الأمم والشعوب، وهم لا يعلمون أنّ ذكر التاريخ والاحداث بجميل أخبارها وحزينها ما هي إلا محاولة لا شعورية لحماية الهوية الجماعية من التشظي والتيهان، فمن نحن الآن؟ وكيف كنّا في السابق؟ وما الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن؟ و ما مصيرنا؟ كلّها تساؤلات تجيبها المصداقية في طرح تاريخنا، فالأمة التي ترى نفسها محقّة باستمرار، أمة تفقد ثقتها بذاتها، وربما بشرعية وجودها.
وهذه الانتقائية التاريخية في اختيار ما يحلو من أحداثٍ من تاريخ الأمم والشعوب والدول، ولّدت عندنا خطورة وخصوصاً عندما تتحوّل هذه الانتقائية من آليةٍ نفسية إلى سياسة عامة، فتُدار الذاكرة كما تُدار الميزانية، ويُقرَّر ما يُدرَّس وما يُنسى، ولم يعد بحثًا عن الحقيقة، بل حفاظًا على السردية المنتقاه. وهنا لا يعود التاريخ مجالًا حيوياً للفهم العميق للأحداث، بل أداة لرسم سيناريو سابق مرسوم، فذكر الثورات دون أخطائها، أو الهزائم دون أسبابها، أو القادة دون مساءلة قراراتهم، يخلق وعيًا ناقصًا، مغبشاً في مظهره، هشًّا في جوهره.
فالتجارب التاريخية تُظهر أنّ الأمم التي طمست فصول إخفاقها، لم تنجُ منها لاحقًا، فألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية واجهت ماضيها القاتم بجرأةٍ مؤلمة، لا بدافع جلد الذات، بل لحماية المستقبل، وفي المقابل، نجد دول كثيرة أعادت إنتاج أزماتها لأنّها لم تسمح لذاكرتها أن تكون صادقة، فالأخطاء التي لا تُفهم، لا تختفي، بل تُورَّث.
فالذاكرة الانتقائية لا تخدم الدول فقط، بل تُريح المجتمع أيضًا؛ فهي تمنح شعورًا زائفًا بالنجاحات التاريخية، وتُخفف القلق الأخلاقي، وتوفّر تفسيرات جاهزة لكلّ تعثّر، وأعذاراً كثيرة مثل: «لم نُهزم، بل خُذلنا»، و«لم نخطئ، بل استُهدفنا»، ودعم نظريات المؤامرة، غير أنّ هذا التسكين المؤقت يُضعف مناعة الوعي، ويجعل الأمة أقل قدرة على النقد الذاتي، وأكثر قابلية لتكرار المسار ذاته بثقةٍ أكبر.
والمفارقة أنّ قوة الأمم لا تُقاس بقدرتها على تمجيد ذاكرتها، بل بقدرتها على مساءلتها ومساءلة تاريخها، فالذاكرة الصادقة لا تُضعف الانتماء، بل تنقّيه. وهي لا تهدم الرموز، بل تُخرجها من الأسطرة إلى الإنسانية الواقعية، حيث يمكن الاقتداء دون تقديس، والتعلّم دون خوف.




