آراء
توجد وصفة في التعرف إلى الناس تعلَّمتُها من الكاتب محمد ديريه عندما كتب ذات مرّة أنّه قابل يونانيًّا فقال له: “أنت من بلد زوربا”، هذه الشخصية الأدبية التي خلَّدها نيكوس كازانتزاكيس. قابلتُ ذات مرّةٍ داغستانيًّا فقلت له: “أنت من بلد الشاعر رسول حمزاتوف”، وتناولت من رفِّ المكتبة كتاب “بلدي” وأبصرت سروره بذلك. ودخل المكتبة شاب طويل فسألته: “من أين؟”، فقال: “السنغال”، فقلت له: “من بلد الشاعر ليوبولد سنغور”. وقدَّر ذلك.
عندما حكيت هذه القصص ذات مرّة، ردّ علي الكاتب رائد العمادي قائلًا إنّه تقابل مع وفدٍ برتغالي رسمي ذات يومٍ فسأله أحدهم: “هل زرت البرتغال؟”، فقال: “لا”، فأجاب البرتغالي: “فاتك الكثير”. ابتسم رائد قائلًا: “لكن قرأت للروائي جوزيه ساراماغو روايته {العمى}، ورواية {انقطاعات الموت}، و{كل الأسماء}، و{رحلة الفيل}”. سكت الجميع وتهلّل وجه رئيس الوفد قائلًا: “لم يفتك من بلادي شيء إذن!”.
هذا يدل على أنّ الأدب أجمل بطاقة تعريف بين الشعوب.
وقد زار المكتبة ضيوفٌ من إيطاليا، فأخذتُ أعرض عليهم روايات إمبرتو إيكو وإيتاليو كالفينو وهُم في دهشة من ترجمة الأدب الإيطالي إلى العربي. وتكرّر المشهد مع قراء من اليابان، وأصبحت على قناعة أنّنا نقرأ كثيرًا من آداب الشعوب الأخرى وهُم لا يعرفون شيئًا عن الأدب العربي.
استخدمت اللعبة مرة ثانية عندنا قابلت شابًّا من داغستان، وقلت له: “من بلد رسول حمزاتوف صاحب {بلدي}؟”. لم يبدُ مهتمًّا بالانتساب إلى الأديب. سألته عن السبب، فقال إنّ رسول كان قريبًا من الحزب الشيوعي ومدح الكرملين. فكّرت بعدها أن تحصل على العالمية ويزهد فيك قومك. تذكرت إشاحة بعض الأتراك نظرهم عن أورهان باموق لاختلافهم معه سياسيًّا.
قرأت عند المترجم أ. إبراهيم إستنبولي قصة تقول إنّ رسول حمزاتوف قدّم خلال زيارة له لكوبا هدية للزعيم الكوبي فيدل كاسترو، وهي سترة صوفية من فلكلور داغستان. وضعها كاسترو عليه ثمّ سأل رسول حمزاتوف: “لماذا لا يوجد عليها أزرار؟”، أجاب الشاعر: “لكي يكون خلعها عن الكتفين سهلًا عند لقاء العدوّ. ونقلها بسهولة إلى كتفي المرأة الحبيبة عند لقائها”.
رسول حمزاتوف
وُلد رسول في الثامن من سبتمبر/أيلول عام 1923 في منطقة تسادو في داغستان. كان له نشاطات أخرى تتعدى حدود الأدب، فهو عضو في الحزب الشيوعي السوفييتي منذ عام 1944، عشت مع بعض فقرات سيرته التي ترجمها عبد المعين الملوحي ويوسف حلاق، فهي مذكرات متشظية، موضوعها حول الولع بداغستان، يكثر فيها الحكم والعبارات الرنانة والأسلوب الغنائي في الكتابة، لكنّها تعلق في الذهن، فالكتاب منجم عامر بالحكمة والاحتفاء بالحب والحديث عن الكتابة والأدب. قد لا تعجب القارئ الذي يبحث عن وحدة موضوعية بين فصولها، لكنّها قد تصلح للتصفح والوقوف بين أفكاره المتناثرة.
كم مرة استيقظت من النوم وتذكّرت عبارته في كتابه “بلدي”: “عندما تستيقظ من نومك فلا تقفز من سريرك كأنّ أحدًا عضَّك، فكِّر قبل كلّ شيءٍ بما حلمت به في نومك”.
قصة الكتاب تبدأ مع تسلُّم رسول ذات مرة طردًا، وفي الطرد رسالة من محرر مجلة يحترمها. حين فض الطرد وجد رسالة من المحرر يقول له فيها إنّه يريد منه موادَّ عن مُنجَزات داغستان ومآثرها الطبيعية وعملها اليومي، وليكن هذا حديثًا عن العاملين البسطاء/مقالة مطولة من 9-10 صفحات.
يكتب حمزاتوف عن قريته وعن مواقد الناس والخيل والجبال والمطر. فهمتُ لماذا يحبُّ صديقي الجنوبي في السعودية سيرة “بلدي”، فهي تتغنّى بالجبال والطبيعة. في سيرة حمزاتوف حكايات عن السواقي الجبلية والينابيع، فهو يشرب من العين ويردّد قول والده: “يمكن للرجل أن يركع في حالتين: ليشرب من العين، وليقطف زهرة”. إنّه لا يريد أن يكون مثل هؤلاء الصيادين الذين اشتروا أيلًا من السوق وقالوا في البيت إنّهم اصطادوه، لذلك كتب نفسه فكتب وطنه في هذا الكتاب.
ينصحنا رسول: “لا تُخرِج الخنجر من غمده دون حاجة إليه، ولكن إذا انتضيته فاضرب به. اضرب لكي تقتل الفارس والفرَس بطعنةٍ واحدة”. ثم يُعلِّق: “ما أحسن حكمتكم يا رجال الجبل”.
بدلًا من المقالة القصيرة صنع كتابًا شاعريًّا عن وطنه داغستان، يقول رسول حمزاتوف: “فلتغفر لي معابد الهند، وأهرامات مصر، وكاتدرائيات إيطاليا، ولتغفر لي طرقات أمريكا العريضة، وأرصفة باريس، وحدائق إنجلترا، وجبال سويسرا. لتغفر لي نساء بولونيا واليابان وروما. لقد نعمت بالنظر إليكنّ، لكنّ قلبي كان يخفق بهدوء، وإذا كان خفقه قد ازداد فليس بالقدر الذي يجفّ فيه فمي ويدور رأسي”. من الروائيين الذين أحبُّوا حمزاتوف وكتبوا عنه عبد الرحمن منيف، وكذلك حنا مينا.
عندما لاحت الغيوم وأمطرت سماء الدوحة، رأيتُني أعود إلى عبارات رسول، فهي دائمًا ما تحتفي بالجمال، وتكتشف جمال الحياة، وتطلب التأني والتمهل.
هنا بعض من عباراته الجميلة:
“يُقال: أين وُلدتَ أيها النسر؟
– في مضيق ضيِّق.
– وأين تُحلِّق؟
– في السماء الرحبة.
………
أسأل الله ألَّا يحرمني لُغتي، لأنّي أريد أن أكتب بشكلٍ تكون فيه أشعاري، وكلّ ما سوف أكتبه، غاليًا ومفهومًا بالنسبة إلى أمي وأختي.
………
الطفل الذي يأتي إلى الحياة لا يتعلّم الكلام مباشرة، إنّه قبل أن ينطق كلمة يتمتم ويتلعثم بألفاظ لا تتبيَّن، ويبكي إذا لم تستطِع أمُّه أن تعرف ما يريد وما يؤلمه. أليست روح الشاعر مثل روح الطفل؟
………
الأفكار والعواطف تأتي كالضيف في الجبال، دون دعوة ودون إنذار. لا مجال للاختفاء ولا للتهرب منها ومنه. وعندنا في الجبال لا يوجد ضيوف صغار وضيوف كبار، هامّون وغير هامّين، أصغر ضيفٍ هامٌّ بالنسبة إلينا لأنه ضيف وحسب، وأصغر ضيف يصبح أجلَّ مِن أكبر ربِّ بيت.
………
على كلّ إنسانٍ أن يفهم منذ صباه أنّه أتى إلى هذا العالم ليصبح ممثلًا لشعبه، وعليه أن يكون مستعدًّا لتحمُّل أعباء هذه المهمة.
………
هل يمكن أن نطلق في العالم كلمة، لم تكن قد عاشت في القلب؟”.
…….
وينصح الكاتب الشاب بقوله: “لا تقُل: {أعطني موضوعًا}، بل قُل: {أعطني عينين}”.
…….
ويصف الشعر بقوله: “لولا الشعر لتحوّلت الجبال إلى كومةٍ من الحصى، والمطر إلى ماء آسِن ومستنقع، والشمس إلى جرم سماوي مشعّ له قدرة حرارية”.
…….
أمّا عن ترجمات الأشعار فهو يصفها بأنّها “تُشبه الأبناء الذين يُرسِلهم أهلُهم من القرية للدراسة أو العمل. وبالطبع يعود الأولاد في كلّ الأحوال متغيرين قليلًا عمّا كانوا حين تركوا عشهم”.
…….
“ما أطيب النشوة التي تشعر بها العصافير حين تشرب ماء المطر من الكؤوس المنقورة في الصخر”.
…….
“يتساءل الجبليون: لماذا كانت الأفاعي ملتوية؟ يُجيبون أنفسهم: لأنّ الجحور والثقوب التي تضطر الأفاعي إلى المرور فيها ملتوية! أنا إنسان، لا أفعى.. أُحِب الأعالي.. الصفاء.. الطرق المستقيمة”.
…….
“يُقال: الإبرة الواحدة تخيط ثوب العرس والكفن”.
ويقول في موضع آخر: “القَلبُ نَفْسُه تَستهدِفهُ الرَّصاصةُ والوَرْدة.. والوجهُ نَفْسُه تأتيه الضحكات والدموع”.
…….
“اسم البنت يجب أن يُشبِه بريق النجمة أو أريج الزهرة، واسم الصبيّ يجب أن يتجسّد فيه صليل السيوف وحكمة الكتب”.
…….
أخيرًا..
يعتبر رسول يوم ميلاده يوم نشر أول قصيدة له في مجلة الحائط المدرسية.. وهذه سيرة رجل تعلَّم الكلام في عامين واحتاج إلى ستين عامًا ليتعلّم الصمت، وهو ليس ابن عامين ولا ابن ستين عامًا، هو في نصف الطريق، لكن الكلمات التي لم يَقُلْها أغلى على قلبه من كلّ الكلمات التي قالها.
تعرَّفوا أشعار وكتابات رسول حمزاتوف..





