آراء
لحظة الصِّدَام بين صدّام وبوش
يضع ستيف كول في كتابه “كعب أخيل” نقطة محددة لنقطة التحول في العلاقات بين صدّام حسين والولايات المتحدة الأمريكية، ويؤرخها بحرب الخليج وقرار صدّام غزو الكويت. يوضح ستيف كول أنّ السفيرة الأمريكية في العراق أبريل غلاسبي تحوّلت إلى كبش المحرقة في وزارة الخارجية بسبب الإخفاق المفاجئ في فهمها توجُّه العراق إلى الحرب مع جارته الكويت. ويرى المؤلف أنّ هذا بسبب التحيز ناحية كونها سيدة في الخارجية، والسبب الآخر في تحميل غلاسبي هذا الأمر هو رغبة الإدارة الأمريكية في تشتيت الانتباه عن حقيقة أنّ مديرها، الرئيس بوش الأب، قد كتب رسائل تودد كثيرة إلى صدّام، وأنّ العلاقات بينهما كانت جيدة في بعض الأحيان، ولم يتخيل أحد أن يُقْدِم صدّام على هذه المغامرة غير محسوبة العواقب.
انتبهت وكالة المخابرات الأمريكية إلى تحركات صدّام العسكرية، وحذّر مدير الوكالة ويليم ويبستر الرئيس بوش مستعينًا بصور الأقمار الصناعية لانتشار القطعات العسكرية العراقية. تحيَّرَ الرئيس بوش من هذه المعلومات، لذلك لجأ إلى التواصل مع الملك حسين ملك الأردن، وتحدَّث معه في الهاتف، وكان رد الملك حسين مُطَمْئِنًا وبأنّه لا إمكانية لحدوث ذلك، ولن يبلغ الأمر تلك الدرجة.
صدى غزو العراق للكويت في الإدارة الأمريكية.
وصلت أخبار الغزو العراقي للكويت الفعلية والرئيس الأمريكي جورج بوش الأب يعاني من ألمٍ في كتفه بسبب لعب الغولف. يرى ستيف كول أنّ أحد أخطاء أمريكا هي عدم توصيل رسائل تهديد لصدّام حسين حتى لا يغزو الكويت، واستمرار سياسة تهدئة لصدّام رغم حربه مع الأكراد قبل ذلك. يقول ستيف كول: “كفَّ الرئيسان ريغان وبوش عن توجيه اللكمات إلى صدّام، حين هاجم أعداءه بالغاز السام، فتعلَّم صدّام أنّه يمكنه الإفلات من الحساب”. يبدو لنا في وصف ستيف كول للمناقشات الأمريكية حول غزو الكويت، اعتبار أنّهم لم يعاقبوا صدّام على ما فعله في حلبجة وهجماته على الأكراد والإيرانيين، وعلى الناحية الأخرى يوضح كول أنّ صدّام أساء فَهْم سياسة واشنطن، ولم يدرك صدّام أنّه سيقع في العزلة العالمية التي تسبَّب بها لنفسه.
لم يتوقع بوش كذلك أن يُقْدِم صدّام على غزو العراق للكويت، ودليل المؤلف في ذلك المفكرة الرئاسية، إذ لم يذكر أيّ شيءٍ يخص نية صدّام اجتياح الكويت، ولم يتوقع صدّام رد الفعل والاستجابة العالمية التي حشدها بوش للحرب. لقد ضم التحالف الأمريكي أربعين بلدًا تقريبًا، خصوصًا أنّ الحرب الباردة انتهت ولم يعترض الاتحاد السوفييتي على هذا الحلف.
من النقاط المهمة التي يذكرها ستيف كول أنّ صدّام كان يعتقد أنّ وكالة المخابرات الأمريكية كلية القدرة والمعرفة، وتعرف كلّ شيء، وأنّها عليمة بأسرار العراق المهمة، وعليه فإنَّ الولايات المتحدة تعرف نيته غزو الكويت، لذلك رد صدّام حسين على المحققين الأمريكيين وهو في الأَسْر بعد عام 2003: “لو لم تريدوا منّي الدخول، فلِمَ لم تخبروني حتى لا أغزو الكويت؟”.
صدّام وهتلر في عين بوش.
يقول الروائي طلال فيصل في روايته “سيرة مولع بالهوانم”: “1991 يدخل صدّام الكويت وأدخل أنا المدرسة، يحاول صدّام البقاء في الكويت وأحاول أنا الخروج من المدرسة، وينتهى مسعانا نحن الاثنين بالإخفاق”. هذا تلخيص لوضع صدّام حسين.
خدم جورج بوش الأب بصفة ملّاح في الحرب العالمية الثانية، فاستند على نحو متواصل إلى تجربته الشخصية في وضع صدّام وهتلر في نفس المستوى، خصوصًا بعد اجتياحه الكويت. كتب بوش في مفكرته عن صدّام: “إنّه خلاصة الشر”. بدا أن التناظر والتشبيه بينهما قد أثَّر في قرارات بوش.
يقرر الرئيس الأمريكي أن يَقِفَ صدّامَ عسكريًّا في جرأة شديدة، وهو يفكّر في مصلحة أمريكا وأوروبا في تدفق النفط بِحُرّية، والمحافظة المعتادة على أمن إسرائيل من أمريكا، غير أنها أوصدت الباب في وجه أيّ تراجع أمام الحرب مع صدّام. لجأ بوش إلى اعتبار أنّ صدّام هو هتلر حتى يغلق أيّ تردد عند النقاش مع السوفييت، خصوصًا عندما طلب منه الزعيم السوفييتي غورباتشوف أن يسمح لصدّام بأن يخرج من الحرب دون الركوع، وردّ بوش: “لو أنّنا منحنا هتلر مخرجًا، فهل كان للأمر أن ينجح؟”.
يستمر كتاب “فخ أخيل” لستيف كول في سرد تفاصيل الحرب بين التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد صدّام حسين وطرده من الكويت، ويذكر مأساة ضرب الولايات المتحدة ملجأ العامرية، حيث قتلت النساء والأطفال، وكانت مأساة إنسانية تدل على الاستهتار بالأرواح.
لم يفكر بوش الأب في إكمال احتلال العراق، والسبب كما يذكر ستيف كول أنّ هذا يتجاوز إلى حدٍّ بعيد تفويض الأمم المتحدة، ويقوّض التحالف الذي بناه على شرعية طرد صدّام من الكويت.
بعد الحرب وطرد صدّام من الكويت، اندلعت انتفاضة ضد صدّام حسين في المدن العراقية، ولجأ حسن المجيد المعروف باسم علي كيمياوي إلى الهجوم على المتظاهرين وإعمال القتل فيهم، وظهرت إشاعات عن قسوة عشوائية مارستها القوات العراقية، مثل إجبار رجال حزب البعث المتمردين على شرب البنزين، ومِن ثَم يُطلِق جنود صدّام النار عليهم في بطونهم لكي يروا انفجارهم.
تُقرِّر أمريكا أخذ مسافة من الانتفاضة وعدم دعمها، وقد يكون سبب عدم دعم الانتفاضة وجود عناصر وأعضاء من فيلق بدر التابع لإيران في هذه الثورة، لذلك لم تفضل أمريكا الإطاحة بصدّام وجلب نظام قريب من إيران لحكم بغداد، لكن الولايات المتحدة وهي تتجنب مساعدة المتظاهرين تناقضت في مواقفها، إذ شحنت الشعب العراقي بالدعاية في أثناء الحرب للانتفاضة على صدّام حسين، وعندما ثاروا لم تدعم هذه المظاهرات.
مسح قادة صدّام ميدان المعركة جوًّا عبر الطائرات العمودية، هذا البند بالتحديد وهو السماح لقوات صدّام باستخدام الطائرات العمودية كان أحد العناصر التي تفاوض عليها قادة العراق مع الأمريكان عند الانسحاب من الكويت، بحجة أنّ تدمير المواصلات بين المدن العراقية يجعلهم يستخدمون الطائرات في الانتقال. لم يدرك قائد التحالف الأمريكي شوارزكوف سر هذا الطلب العراقي لاستخدام الطائرات العمودية.
اتضح السبب بعد الحرب، فقد ساعدت هذه الطائرات قادة صدّام على استعادة حكم المدن العراقية المنتفضة عبرها، لكن مع اشتداد هجوم صدّام على الأكراد تضطر الولايات المتحدة إلى التدخل، وتفرض حظرًا للطيران في مناطق كردستان، حيث أراد جورج بوش الأب الحفاظ على صورة النصر الذي حصل عليه من حرب الخليج، ولذلك حاول معالجة مشكلة الأكراد العالقين على الحدود التركية، فهو لا يحتاج إلى أن يرى على شاشات التليفزيون صورة لاجئين على الحدود، ويريد أن يركز على نجاحه في طرد صدّام من الكويت.
يستمرّ كتاب ستيف كول “فخ أخيل” في شرح تفاصيل العلاقات المعقدة بين الولايات المتحدة وصدّام حسين، خصوصًا محاولة اختراق العراق عبر لجان فحص الأسلحة النووية. هكذا انتهت حرب الخليج بفشل أمريكا في الإطاحة بصدّام حسين، وفشل الانتفاضة العراقية في الإطاحة به، وأصبح اختراق العراق مخابراتيًّا صعبًا لأنّ العراق كان أحد أكثر الأنظمة الأمنية إحكامًا في العالم، ولم يكن في بغداد منتسب أو عميل للمخابرات الأمريكية بصفةٍ دائمة كما يذكر الكتاب.
أنفقت الولايات المتحدة اثنين وثلاثين مليون دولار في سنةٍ واحدة على مشاريع مثل كتاب كوميدي وفيديوهات وبرامج إذاعية معادية لحزب البعث، بالإضافة إلى معرض صور وثَّق فظاعات صدّام حسين، وبعض هذه الأعمال تضمَّن أشياء سخيفة مثل إرسال طائرة مسيرة لكي ترمي منشورات على حفلة عيد ميلاد صدّام حسين.
وصول بيل كلينتون إلى الرئاسة الأمريكية.
تبدو لنا قصة صدّام قصة تاريخ المنطقة العربية في ثلاثة عقود، يفوز كلينتون بالرئاسة في عام 1993، ويصبح الرئيس الثاني والأربعين للولايات المتحدة، وحين علم صدّام حسين بهزيمة بوش ظهر على شرفة في بغداد وأطلق الرصاص في الجوّ، وسرعان ما حلّل صدّام خروج بوش مع رفاقه قائلًا لهم: “يجب ألا نتخذ موقفًا رسميًّا بشأن هزيمته”، لتفادي تفاقم الأوضاع مع واشنطن، ومع هذا شتم صدّام ورفاقه بوش في السرّ، وفرحوا بخروجه من الحكم وأنّ صدّام لا يزال باقيًا، مثلما قال طه ياسين رمضان.
في الحلقة القادمة نحكي كيف قررت المخابرات الأمريكية البحث عن بديل عن صدّام حسين بين أحمد الجلبي وإياد علاوي والمنشق حسين كامل المجيد.





