سياسة
الكاتب: محمد الرفاعي
في مشهدٍ لم تألفه الأوساط الاقتصادية والسياسية منذ سنوات، حملت مشاركة الرئيس أحمد الشرع في مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” بالرياض مؤشّراً على ولادة خطاب اقتصادي جديد لسوريا، يبتعد عن سردية المعونات والمساعدات الطارئة، ويتجه نحو منطق الاستثمار والإنتاج والتكامل الإقليمي.
هذه المشاركة، رغم رمزيتها السياسية، جاءت محمّلة بلغة الأرقام والمشاريع، لتقدّم صورة مختلفة لبلدٍ عانى حرباً طويلة ويبحث اليوم عن موقعٍ جديد في الخريطة الاقتصادية للشرق الأوسط.
ارتكز الخطاب الرسمي السوري سابقاً على فكرة “الصمود” و”التعافي”، لكن كلمة الرئيس الشرع في الرياض مثّلت انتقالاً واضحاً نحو مرحلة البناء والاستثمار بوصفها الطريق الوحيد للاستقرار.
قال في كلمته: “الأمن لا يتحقق بلا تنمية، والاستقرار لا يُبنى على المعونات، بل على الإنتاج والعمل”.
بهذا التصريح، رسم الشرع حدود الخطاب الجديد: التنمية ليست نتيجة السلام، بل شرطه الأساسي.
هذا التحوّل في المفهوم يحمل دلالات عميقة. فبعد عقدٍ من التعويل على الدعم الإنساني والإغاثي، يُعاد تعريف «التعافي» كمشروعٍ اقتصادي شامل، لا كاستجابةٍ مؤقتة للأزمة. إنّه انتقال من منطق النجاة إلى منطق النهضة، ومن اقتصادٍ يعتمد على المساعدات إلى اقتصادٍ يحاول خلق الثروة.
أعلن الرئيس الشرع دخول استثمارات تقدر بنحو 28 مليار دولار خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي، وهو رقم مثير في بلدٍ خرج لتوّه من سنوات العزلة والعقوبات.
من منظور التحليل الاقتصادي، هذه الأرقام تعني أكثر من مجرّد رؤوس أموال: إنّها عودة تدريجية للثقة بالبيئة الاستثمارية السورية، ورسالة سياسية إلى الخارج بأنّ البلاد دخلت طوراً جديداً من الانفتاح.
كما كشف الشرع أنّ قانون الاستثمار السوري المعدّل صُنّف ضمن أفضل عشرة قوانين في العالم وفق تقارير خبراء، وهو تصريح يحمل دلالتين: رغبة في تسويق صورة تشريعية عصرية، ومحاولة لإعادة موضعة سوريا ضمن قائمة الاقتصادات الجاذبة، لا الطاردة.
لكن الأهم من القانون نفسه هو الرسالة الكامنة خلفه: أنّ سوريا مستعدة لتأمين الضمانات القانونية للمستثمرين، بما في ذلك حرية تحويل الأرباح ورؤوس الأموال إلى الخارج، وهو ما يشير إلى تحوّل جذري في فلسفة الاقتصاد السوري التي كانت تاريخياً تقوم على مركزية الدولة وتقييد حركة رأس المال.
اختيار الرياض لإطلاق هذه الرسائل لم يكن تفصيلاً عابراً. فالمملكة اليوم تمثّل قلب التحوّل الاقتصادي في المنطقة، ومركز القرار الاستثماري الخليجي.
الشرع وصف السعودية بأنّها “بوصلة اقتصادية وأهمية كبرى”، كاشفاً عن استثمارات سعودية بقيمة تقارب 7 مليارات دولار بدأت فعلاً داخل سوريا، إلى جانب مشاريع قطرية في مطار دمشق وقطاع الطاقة بقدرة 5000 ميغاواط.
هذا التوجه يفتح باباً لتحليلٍ أعمق: فالتقارب الاقتصادي قد يشكّل مدخلاً لتطبيع سياسي تدريجي يعيد دمج سوريا في محيطها العربي، بعد أن كان الانقسام السياسي حاجزاً أمام التعاون الاقتصادي.
الاستثمار هنا لا يُقرأ كتحرك مالي فقط، بل أداة دبلوماسية لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، حيث يُعاد وصل الاقتصاد بالسياسة.
في جزءٍ لافت من حديثه، تحدّث الشرع بوضوح قائلاً: “المعونات لا تساعد على البناء، بل تساعد على الكسل لربما”.
بهذه الجملة أعلن قطيعة فكرية مع المرحلة السابقة التي هيمنت فيها المساعدات على المشهد الاقتصادي والاجتماعي.
يرى الشرع أنّ الرهان الحقيقي هو على الشعب السوري الذي أثبت قدرته على “الانتصار من لا شيء”، معتبراً أنّ رأس المال البشري هو المحرك الأساسي لمرحلة التعافي.
تحليل هذا الموقف يكشف عن نزعةٍ ليبرالية وطنية جديدة في التفكير الاقتصادي الرسمي: لا خلاص دون إنتاج، ولا إنتاج دون انفتاح على المبادرة الفردية والقطاع الخاص.
وهي رؤية تتقاطع مع تجارب دول خرجت من أزمات كبرى (كالبوسنة أو رواندا) حين اعتمدت على إعادة بناء الإنسان قبل البنية التحتية.
أكّد الرئيس الشرع أنّ سوريا موقع استراتيجي و«بوابة الشرق» وطريق الحرير التاريخي، مشيراً إلى تنوّع الفرص في قطاعات العقار والسياحة والزراعة.
واعتبر أنّ القطاع الزراعي السوري قادر على إطعام 250 إلى 300 مليون نسمة إذا أُعيدت هيكلته.
هذه الأرقام، وإن بدت طموحة، تعبّر عن محاولة إعادة تعريف وظيفة سوريا الاقتصادية في الإقليم، لا كدولةٍ متلقية للسلع، بل كمنتجٍ وممرّ ومركز عبور.
من زاوية التحليل الجيو-اقتصادي، هذا الطرح يسعى إلى تحويل الجغرافيا إلى قيمةٍ مضافة، عبر موقع البلاد الرابط بين البحر المتوسط والعمق الآسيوي.
بهذا المعنى، فإنّ الحديث عن “بوابة الشرق” ليس مجرّد استعارة بل مشروع سياسي اقتصادي يحاول استثمار التاريخ في بناء المستقبل.
والهدف هو عودة أهل سوريا وإنهاء حالة الغربة، مضيفاً بتفاؤلٍ لافت: “سوريا ستكون في مصافّ الدول الكبرى اقتصادياً خلال بضع سنوات”.
يمكن قراءة خطاب الشرع كاملاً بوصفه وثيقة سياسية مموّهة بلباسٍ اقتصادي.
فحين يقول إنّ التنمية شرطٌ للاستقرار، وإنّ الاستثمار بديلٌ للمعونات، فهو في الواقع يعلن عن استراتيجية خروج تدريجي من العزلة، تعتمد على بوابة الاقتصاد لا على المفاوضات السياسية التقليدية.
بهذا المعنى، تتحوّل مفاهيم مثل “الاستثمار”، و”التكامل الإقليمي”، و”رأس المال البشري” إلى مفرداتٍ سياسة خارجية جديدة، تُستبدل فيها أدوات الخطاب الصراعي بخطاب المصالح المشتركة.
ومن هنا تأتي أهمية مؤتمر الرياض: لا كمحفلٍ اقتصادي فحسب، بل منصة لإعادة صياغة صورة سوريا إقليمياً، والتأكيد أنّ الطريق إلى التعافي يمر عبر الاقتصاد، لا عبر الشعارات.
قد تُناقَش دقة الأرقام أو مدى واقعية التوقعات، لكن المؤكد أنّ الخطاب تغيّر.
سوريا التي كانت تُقدَّم كعبءٍ إنساني على النظامين الإقليمي والدولي، تحاول اليوم أن تُعرّف نفسها كـ”فرصة استثمارية” وشريك محتمل في منظومة اقتصادية أوسع.
إنّه تحوّل في اللغة، والذهنية، والاتجاه، وهو ما يجعل خطاب الشرع في الرياض نقطة انعطاف في المشهد السوري.
فالحديث عن 28 مليار دولار ليس مجرّد احتفال بالمال، بل إعلان عن ولادة وعي اقتصادي جديد، يعيد الاعتبار للإنسان والعمل والإنتاج، ويضع سوريا ـ إن صدقت الأرقام وتحققت المشاريع ـ على طريق مختلف تماماً عمّا عرفته في العقد الأخير.



