آراء

عقدة أبي رغال: هل الخيانة.. مرض في الضمير أم خلل في الهوية؟

أكتوبر 13, 2025

عقدة أبي رغال: هل الخيانة.. مرض في الضمير أم خلل في الهوية؟

من يقرأ التاريخ بعين تأملية يجد أنّه في كلّ أمةٍ أناساً جبلوا على المهانة وعدم الكرامة، فيبيعون الأرض والعِرض بثمنٍ بخس، ويظنّون أنّ قوى الاحتلال الغازية يمكن أن تكون بمثابة الراعي لا الغاصب!، فتتكرر الحكاية نفسها، وتتبدّل الأسماء، ولكن المضمون واحد: رجلٌ من جلدتنا، يعرف لغتنا ولهجتنا وطرائقنا، لكنّه يُسلّم مفاتيح الوطن للغريب طوعاً، ويظنّ أنّه ينتقم من خصومه بينما هو يهدم بيته بيده، والتاريخ العربي لا ينسى هذه الفعال، فقد أطلق العرب في أدبيّاتهم على خونة الأوطان لقبًا خالداً وهو: أبو رِغال.

كان أبو رِغال في الجاهلية دليلاً لجيش أبرهة حين سار لهدم الكعبة، ولم يكن حبًّا منه لأبرهة، بل حقدًا على قريش، ورغبة في مكانةٍ عند الغازي المحتل لبلاد الحجاز، وفي طريقه مع أبرهة لغزو مكة مات في الطريق، فعلم الناس مكان قبره، فرمى العرب قبره بالحجارة جيلاً بعد جيل، حتى صار قبره مزارًا للّعنات، ولم يكن العرب يفعلون ذلك طيشًا أو جهلًا، بل ليعلّموا أبناءهم الأحرار أنّ الخيانة لا تموت بموت صاحبها، وأنّ من باع قومه يظلّ في ذاكرة الأمة وصمةً لا تُغسل بماء الزمن.

واليوم، بعد أكثر من ألف عام، يعيد التاريخ المشهد نفسه ولكن على أرض غزّة، فقد صرّحت وسائل إعلام عديدة، أنّ رجلاً فلسطينيًّا يُدعى ياسر أبو شباب، خرج عبر أثير إذاعةٍ إسرائيلية، ليعترف علنًا بتعاونه مع جيش الاحتلال، مؤكدًا أنّه يقاتل “حماس” في غزّة بالنيابة عن إسرائيل، وأنّ مشروعه هو “استئصال فكرة  المقاومة” من رفح، ولم يكتفِ بالاعتراف، بل تفاخر به، معلنًا أنّ مجموعته تعمل بإشراف مباشر من “الشاباك” الإسرائيلي، وأنّها تتلقى الدعم والسلاح من قادة الاحتلال أنفسهم.
و هذا المشهد لا يقل فظاعة عن خيانة أبي رغال لأمة العرب سابقاً، بل يفوقها قبحًا، لأنّ أبا رغال لم يشهد إبادة أو مذبحة لقومه بالصوت والصورة، ولم يكن يتحدث  بالحبشية على أثير إعلام أبرهة  متباهيًا بانتمائه الجديد!

وقد أصدر القضاء الفلسطيني بحقه حكمًا بالإعدام، وأعلنت فصائل المقاومة أنّ دمه مهدور، لأنّه لم يخن فصيلًا أو حزبًا، بل خان الهوية الفلسطينية ذاتها وخان أمة العرب، ورضي أن يكون أداة لتفكيك مجتمعٍ محاصرٍ مذبوح من كل الجهات.

ولعلنا نتساءل بعمق..لماذا يخون الإنسان وطنه وشعبه وقومه؟ إنّ الخيانة يا أخيار ليست لحظة عابرة، بل هي فعلاً بمثابة انكسار عميق في بنية النفس والعقل والروح الانسانية، يبدأ حينها الخائن بتبرير صغير، ثمّ يتحوّل صوته إلى صدى للغريب ولسانه أداة لعدو وطنه ويده وسلاحه بديلاً عن سلاح العدو الغازي .

والخيانة -كما تعلمون- فعل قبيح يتغذّى  على خمس علل، أولها الجهل الذي يميت الانتماء للقوم والأرض، وثانيها الطمع الذي يعمي البصيرة ويبيع القيم، وثالثها الجبن الذي يختار السلامة على الكرامة، وأيضاً الانفصال النفسي الذي يجعل العدوّ أقرب من الأهل، ولا ننسى تشوّه القيم حين يُكافأ الخائن ويُقصى المخلص.
إنّها فعلًا جريمة .. تولد من الداخل قبل أن تُعلن على العلن، وحين تجتمع هذه الطوام في رجلٍ واحد، يولد أبو رِغال جديد في كل زمان، فيتكلم بلساننا لكنّه يحمل قلبًا غريبًا عنّا.

إلا أنّ نهاية الخونة… ثابتة لا تتبدل في عرف الأمم الحرة، فيقال إنّ إسرائيل نفسها امتنعت عن استقبال ياسر أبو شباب بعد أن استخدمته وانتهت صلاحيته، وكأنّها تقول له: “ابتعد بقذارتك، حتى نحن لا نأوي الخائنين”. وهكذا هي نهاية كل خائن .. منبوذ من قومه ومرفوض من أعدائه ، فإنّهم يموتون حقراء غرباء، بلا هوية ولا كرامة، تلاحقهم لعنة التاريخ كما لاحقت أبا رغال من قبل .. والله المستعان .

شارك

مقالات ذات صلة