سياسة
تقرير دوري 28 أيلول/ سبتمبر 2025
الوضع السياسي: زيارة نيويورك التاريخية تفتح صفحة جديدة لدمشق في العلاقات الدولية
مثّلت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة محطة تاريخية تُعبّر عن إنهاء سنوات العزلة الدولية، حيث حظي الشرع باستقبال قادة وسياسيين عالميين وألقى كلمةً هي الأولى لرئيسٍ سوري منذ عام 1967. استغل الرئيس السوري هذه الفرصة لتقديم صورة جديدة عن سوريا كوجهةٍ استثمارية محتملة، وعقد خلال زيارته سلسلة من اللقاءات مع ممثلي 39 شركة عالمية كبرى.
تمكّن الشرع من تقديم نفسه بصفته زعيماً سياسيًّا صاعداً يركز على إعادة إعمار سوريا بعد سنوات الحرب، حيث شكّل تخفيف العقوبات الدولية أحد أبرز أهداف الزيارة، كونها تمثل خطوة ضرورية لتحقيق الانتعاش الاقتصادي. وشمل جدول أعماله لقاءات مع مسؤولين رفيعي المستوى، بينهم وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس التركي رجب طيب أردوغان إضافة إلى لقاء جانبي مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. كما شكّلت الزيارة فرصة للتباحث مع مشرعين أمريكيين حول تقدم ملف رفع العقوبات، وفتح قنوات اتصال مع مستثمرين دوليين.
من ناحية أخرى تشكل الزيارة مفارقة تلفت الانتباه، فقبل عام فقط كان مطلوباً للعدالة الأمريكية مع عرض مكافأة مالية ضخمة مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقاله، واليوم يقف على المنصة الدولية ممثلاً شرعيًّا عن سوريا.
وقد أثارت هذه التحولات تفاعلاً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي، حيث علّق المغردون على دلالات هذه الرحلة التي نقلت الشرع من السجن الأمريكي في العراق إلى قاعة الأمم المتحدة. وأبرزوا كيف أنّ هذه المسيرة تعكس تحولاً في السياسة الدولية تجاه سوريا، معتبرين أنّ الأمر يتجاوز كونه مجرّد صدفة أو حظاً عابراً. وتجلّت المفارقات بشكل أكبر في اللقاء الذي جمع الرئيس السوري بالجنرال ديفيد بتريوس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والذي كان قائداً للقوات الأمريكية في العراق أثناء فترة اعتقال الشرع.
تبرز هذه التطورات علامة فارقة في المسار السياسي السوري، حيث ترمز إلى خروج سوريا من عزلتها الدولية والانتقال “من ميدان الحرب إلى ميدان الحوار” ما يمثل رسالة أمل للسوريين، ويفتح أبواباً جديدة للمستقبل شريطة تحويل الوعود الدولية إلى إجراءاتٍ ملموسة تنعكس إيجاباً على الوضع المعيشي للمواطنين وتحقيق الاستقرار الشامل.
في السياق أيضاً، كانت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني الأولى إلى واشنطن نقطة محورية في المسار الدبلوماسي السوري الجديد، حيث تمثل أول زيارة لمسؤول سوري بهذا المستوى منذ عام 1999. جاءت الزيارة تمهيداً لزيارة الوفد الرئاسي السوري لنيويورك، وفي ظل مساعي الحكومة السورية لإعادة ربط الاقتصاد السوري بالنظام المالي الدولي، حيث عقد الشيباني اجتماعات مكثفة في وزارة الخزانة الأمريكية بحضور المبعوث الخاص توم برّاك، تناولت سبل مكافحة تمويل الإرهاب وتهيئة الظروف لرفع العقوبات.
تحمل هذه الزيارة أبعاداً اقتصادية وسياسية بالغة الأهمية، إذ سعى الشيباني من خلالها إلى كسب تأييد الكونغرس الأمريكي لرفع العقوبات بما فيها قانون قيصر، وهو ما قد يفتح الباب لتدفق الاستثمارات الدولية ويسرّع عملية إعادة الإعمار.
إجمالاً، ما يزال المسار الدبلوماسي الجديد رغم نجاحاته يواجه تحديات دقيقة، حيث يربط الطرف الأمريكي أيّ تقدمٍ ملموس بشروط تتضمن توقيع اتفاق أمني مع إسرائيل والانضمام للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، إلى جانب ضمان عدم عودة النفوذ الإيراني أو الروسي، الأمر الذي يتطلب دبلوماسية سورية قادرة على إقناع الأطراف الأمريكية بجدوى الشراكة الجديدة، مع الحفاظ على المصلحة الوطنية السورية وتحقيق توازن بين الضغوط الدولية والمطالب الداخلية، خاصة في ظل الحساسية الشعبية حول أيّ تقديمٍ لضماناتٍ أمنية لإسرائيل مع استمرار احتلال الجولان.
الوضع الاجتماعي: مسار انتقالي وتماسك مجتمعي
أعلنت اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب السوري الجدول الزمني النهائي للعملية الانتخابية التي دخلت مرحلتها الحاسمة، حيث يبدأ الترشح في 27-28 أيلول/ سبتمبر على أن يقتصر على أعضاء الهيئات الناخبة، تليها فترة دعاية انتخابية من 29 أيلول/ سبتمبر إلى 3 تشرين الأول/ أكتوبر تقتصر على عرض السير الذاتية والبرامج الانتخابية والمشاركة في المناظرات. ويُعتبر يوم 4 تشرين الأول/ أكتوبر يوم صمت انتخابي، يليه الاقتراع في 5 تشرين الأول/ أكتوبر وإعلان النتائج في 6 تشرين الأول/ أكتوبر.
ويُنتظر أن يرسي البرلمان الجديد الأساس لعملية ديمقراطية أوسع نطاقاً في سوريا، حيث سيقع على عاتقه إقرار التشريعات التي تهدف إلى إصلاح السياسات الاقتصادية التي تسيطر عليها الدولة منذ عقودٍ والتصديق على المعاهدات التي يمكن أن تعيد تشكيل تحالفات سوريا السياسية. الجدير بالذكر أنّ هذه الانتخابات التي تجري بنظامٍ غير مباشر حيث يقتصر التصويت والترشح على أعضاء الهيئات الناخبة تأتي في إطار المسار الانتقالي الذي تشهده سوريا، وسط جهود لتعزيز النزاهة من خلال شراكات مع منظمات المجتمع المدني لتدريب اللجان ورفع الوعي الانتخابي، ما يعكس سعياً لإتمام مرحلة مفصلية ستؤدي إلى تشكيل مجلس شعب يضطلع بمهام تشريعية مصيرية، وبناء حياة سياسية تعددية قائمة على المؤسسات والمساءلة وتشكّل امتحاناً وطنيًّا لإرادة التغيير لدى السوريين..
شكّلت حملة “الوفاء لإدلب” نموذجاً استثنائيًّا للتضامن الوطني، حيث استطاعت خلال ساعات قليلة من انطلاقتها جمع مبلغ قياسي بلغ 208 ملايين دولار، محطمة بذلك كلّ التوقعات في سابقة غير مألوفة في العمل الإنساني السوري. هذا الإنجاز الكبير لم يكن مجرّد رقم مالي، بل كان تجسيداً حياً للرمزية الخاصة التي تحتلها إدلب في الوجدان السوري كرمزٍ للصمود، ممّا عكس ثقة شعبية ومؤسسية واسعة بهذه المبادرة. وقد أعطى حضور الرئيس الشرع للحملة بعداً رمزيًّا مهماً، خاصة بعد عودته مباشرة من مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هذه الحملة وغيرها من الحملات السابقة في ريف دمشق وحمص ودير الزور ودرعا وغيرها من المناطق تمثل اختباراً عمليًّا لقدرة المبادرات المحلية على قيادة عملية إعادة الإعمار، كما أنّها تحوّل شعارات التكافل الوطني إلى مشاريعٍ ملموسة تؤكد أنّ إعادة الإعمار يمكن أن تنطلق من الداخل، بقدرات وطنية وبجهود منظمة. من الناحية الأخرى تواجه هذه الحملات اختباراً حقيقيًّا لقدرة منظميها على تحويل هذه التبرعات إلى مشاريع تنموية مستدامة تعيد إعمار القرى وتمهد الطريق لعودة آلاف النازحين إلى ديارهم.
الوضع الأمني والعسكري:
الحملات الأمنية المحلية: تعزيز السيطرة الأمنية ومكافحة التهريب
تشكّل العمليات الأمنية الأخيرة، بما في ذلك اعتقال عدد من ضباط النظام السابق والعملية النوعية في منطقة القصير بريف حمص، مؤشراً واضحاً على تطور الأداء الاستخباري والميداني للأجهزة الأمنية السورية. فعمليتا حمص، اللتان أسفرتا عن مصادرة أكثر من 200 صاروخ “غراد” وأسلحة متطورة أخرى، لا تعكس فقط دقة المعلومات الاستخبارية وقدرة الأجهزة على التحرك في التوقيت المناسب، بل تكشف أيضاً عن استمرار التهديدات الأمنية المتمثلة في محاولات تهريب الأسلحة عبر الحدود.
وتبرز الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القصير، بوصفها نقطة حدودية حساسة مع لبنان، كمحورٍ رئيسي في شبكات التهريب الإقليمية، ما يفسر تركيز الجهود الأمنية عليها. ويمكن النظر إلى هذه العمليات الناجحة ضمن سياسة أمنية شاملة تهدف إلى تعزيز سيطرة الدولة على المناطق الحدودية، وإرسال رسالة واضحة إلى الجهات الإقليمية بأنّ دمشق قادرة على حماية حدودها وقطع الطريق أمام أيّ محاولاتٍ لزعزعة استقرارها.
الانتهاكات الإسرائيلية: الخلاف على “الممر الإنساني” يعيد الملف الأمني إلى نقطة الصفر
تشير تقارير دولية إلى تعثُّر المساعي الأمريكية الرامية لإبرام اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل، حيث يُعزى هذا التعثُّر إلى إصرار إسرائيل على مطلب فتح “ممر إنساني” إلى محافظة السويداء، وهو المطلب الذي ترفضه دمشق باعتباره انتهاكاً صريحاً لسيادتها الوطنية. وجاء هذا المطلب المفاجئ ليعيد الملف إلى نقطة الصفر، بعد أن كانت التقارير ذاتها قد أشارت إلى اقتراب الطرفين من التوصل إلى اتفاقٍ يشمل إقامة مناطق منزوعة السلاح في جنوب سوريا، تحت وساطة أمريكية مكثفة.
يحدث هذا التطور في سياقٍ متصاعد، حيث تواصل إسرائيل عمليات التوغل العسكري في المنطقة العازلة في هضبة الجولان المحتلّة، بينما تضغط الإدارة الأمريكية لتحقيق اختراق دبلوماسي كان من المقرر الإعلان عنه خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
تعكس هذه المفاوضات المتعثرة عمق الهوّة بين الموقفين؛ فبينما تتمسك دمشق بثوابت السيادة الكاملة ووحدة الأراضي السورية، تستمر إسرائيل في استخدام ورقة “الحماية الأمنية” للطائفة الدرزية كمبررٍ لفرض شروطها. كما أنّ التوقيت الحرج للحكومة الانتقالية في دمشق، والتي توازن بين متطلبات المرحلة الداخلية والضغوط الخارجية، يحد من قدرتها على تقديم تنازلات كبيرة. في المقابل، يُخشى أن يؤدي فشل هذه المفاوضات إلى موجة جديدة من التصعيد العسكري، خاصة في ظلّ استمرار الهدوء الهش في محافظة السويداء والمناطق الجنوبية المجاورة.
قسد: جمود تفاوضي واشتباكات متقطعة
تُشكّل التطورات الأخيرة في ملف التفاوض بين الحكومة السورية و”قسد” صورةً واضحة للجمود التفاوضي المستمر بين الطرفين. فقد أثارت “قسد” مؤخراً مقترحاً جديداً يتمثّل في تعيين قائدها مظلوم عبدي أو أحد أبرز ضباطها في منصب وزير الدفاع أو رئيس الأركان، في خطوةٍ تهدف إلى تعزيز موقفها التفاوضي وإضفاء شرعية على وجودها العسكري. ويأتي هذا المقترح في سياق الجمود المستمر حول القضايا الجوهرية، وأبرزها آلية الاندماج العسكري وشكّل النظام السياسي بين المركزية واللامركزية.
في خضم هذا الجمود، تتصاعد الاتهامات المتبادلة، حيث تؤكد دمشق أنّ “قسد” تطرح مطالب جديدة خارج إطار اتفاق آذار/ مارس الذي نص على الاندماج الكامل في مؤسسات الدولة، بينما تتهم “قسد” الحكومة بالمماطلة وعدم الوضوح في الرد على مقترحاتها. ويمثل هذا الجمود انعكاساً طبيعيًّا للتعقيدات الإقليمية والدولية المحيطة بالملف، حيث تُتابع تركيا التطورات عن كثب، فيما تحافظ “قسد” على دعمها الأمريكي الذي يُعزّز من قدرتها التفاوضية.
على الصعيد الميداني، تؤكد الاشتباكات المتقطعة بين الجيش السوري و”قسد” هشاشة التهدئة المعلنة، ممّا يهدّد بإعادة المنطقة إلى مربع المواجهات المباشرة. ويبدو المشهد العام متجهاً نحو استمرار حالة الجمود القائم، مع تصاعد محدود للاشتباكات دون تطورها إلى مواجهةٍ شاملة، في انتظار تغير موازين القوى الإقليمية أو حدوث اختراق حقيقي في الملف السياسي.
الوضع الاقتصادي: شراكات إقليمية ومشاريع واعدة
مثّل توقيع اتفاقية التمويل المشترك بين قطر والسعودية والأمم المتحدة لدعم الحكومة السورية بقيمة إجمالية تبلغ 89 مليون دولار أمريكي للمساهمة في دعم العاملين بالقطاع العام السوري، محطةً جديدة في مسيرة الدعم الإقليمي والدولي لسوريا، وذلك في إطار مواصلة الدعم المالي المشترك الذي أعلن عنه البلدان في تموز/ يوليو الماضي لدعم العاملين في القطاع العام السوري.
تحمل هذه الخطوة “رسالة واضحة ومعبرة” عن عمق الشراكة الناشئة بين الأطراف الثلاثة، وتأتي في توقيت بالغ الحساسية حيث تواجه سوريا أزمات اقتصادية متعددة، مما يعكس إدراكاً إقليميًّا متزايداً لأهمية استقرار سوريا كشرطٍ لاستقرار المنطقة بأكملها. وتشكّل هذه المنحة مؤشراً إيجابيًّا على استعداد الدول المانحة لتعزيز حجم الدعم المالي مستقبلاً، كما تأتي في سياق التحوّل الأوسع في العلاقات السورية-الخليجية، حيث تمهد الطريق لمشاريع تنموية أكبر وتضع أسساً جديدة للتعاون الإقليمي.
يعود خط الحجاز الحديدي ليبرز كأحد أبرز المشاريع الجاذبة للاهتمام في المرحلة الحالية، حيث يمثل الاتفاق الثلاثي بين تركيا وسوريا والأردن لاستكمال الجزء الناقص البالغ 30 كيلومتراً في الأراضي السورية استثماراً متميزاً يجمع بين الأبعاد التاريخية الجيوستراتيجية.
يأتي إحياء هذا المشروع في لحظة بالغة الدقة، حيث تسعى تركيا من خلاله إلى تعزيز حضورها الإقليمي عبر استثمارات نوعية تلامس الوجدان الجمعي للشعوب. فخط الحجاز الذي شُيّد في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني كان جسراً روحيًّا وماديًّا يربط بين حواضر العالم الإسلامي. غير أنّ الطموح الكبير يقابله تحديات جسيمة، يأتي في مقدمتها التحدي الأمني في المناطق التي يمر بها المسار، وذلك في ظلّ بيئة سياسية إقليمية متوترة تبرز فيها إسرائيل كعائقٍ رئيسي أمام المشروع.
في المقابل، يعد المشروع في حال اكتماله نقلة نوعية للاقتصادات المحلية، حيث سيساهم في إحياء السياحة الدينية والتجارية، وتوفير آلاف فرص العمل، وإعادة إحياء المدن الواقعة على امتداد الخط، كما سيمنح الدول الثلاث مكانة تفاوضية مهمة في الممرات التجارية الدولية.