تجارب

لماذا لا توجد عصور وسطى إسلامية؟

لماذا لا توجد عصور وسطى إسلامية؟

لديَّ حُبٌّ للقراءة عن العصور الوسطى الأوروبيّة أو “القروسطي” لغرض الفذلكة، وحُبّ لتخيُّل شكل الحياة فيها، قبائل الجرمان المهاجمة للإمبراطوريّة الرومانيّة، وانتقال العاصمة إلى القسطنطينيّة، وسقوط روما، وجيش أتيلا الهوني الذين يشبهون المغول، والملك هنري وصراعه مع البابويّة، ثم حكايات البابويّة نفسها، وحادثة كانوسا، وصراع المسيحيّة مع بقايا الوثنيّة في النفوس، وتحوُّل المسيحيّة إلى مؤسَّسة، وقصة الحروب الصليبيّة، وصورة المسلمين في مخيّلة الأوروبيين… كل هذه الفترة التاريخيّة المظلمة من سقوط روما إلى سقوط القسطنطينيّة على يد محمد الفاتح.

أُحِبّ التجوُّل مع أمراء الإقطاع والأقنان والفرسان بلا أرض، الذين سيشاركون لاحقًا في الحروب الصليبيّة، بؤس الحواضر الأوروبيّة وفقرها، وعقم الديانة، واستبداد الملوك والشخصيات الكاريزميّة مثل الملك شارلمان أو وليم الفاتح أو إليزابيث الأولى. مَدين للدكتور الأمين أبو سعدة الذي حضرت معه دروسًا في تاريخ العصور الوسطى في كلية الآداب بقسم التاريخ في جامعة طنطا، وتعلّمت منه كثيرًا. كانت محاضراته قطعة أدبيّة فريدة وهو يحكي بصوته المميّز أحداث هذه العصور الضبابيّة، ويعلمنا صعوبة تحديد زمن الحقب التاريخيّة.

ومن الكتب التي كان يوصي بها د. الأمين، كتاب “التاريخ الوسيط.. قصة حضارة البداية والنهاية” لنورمان كانتور، ترجمة قاسم عبده قاسم. أرى كنيسة تنمو كطفلٍ صغير هشّ، ثمَّ تتحوّل إلى بابويّة قوية بجيوش وإقطاعيات، وأرى ممالك متصارعة، وقبائل الجرمان يدكّون حصون روما الضخمة، وأرى عِزَب الإقطاعيين وفرسان العصور الوسطى، وأتذكَّر المؤرخ الكبير قاسم عبده قاسم، الأستاذ الذي حلمت أن أدرس معه وأن يُشرِف على دراساتي العُليا، بل لقد فكّرت في التخصص في العصور الوسطى حتى أكون في نفس تخصصه، خصوصًا بعد محاضرات د. الأمين أبو سعدة الرائعة. قرأت لقاسم عبده قاسم كتابه “ماهية الحروب الصليبية”، واكتشفت كتابة مختلفة، وتابعت مقالاته على صفحات مجلة “العربي”، وكنت أحرص على ترجماته، رحمه الله، واكتشفت منه فكرة تعدّد الدوافع في التاريخ، فقد يجتمع البعد الدينيّ مع البعد الاقتصاديّ في نفسية المحارب.

وعلى اهتمامي بالعصور الوسطى، فليس لديَّ غرام بالأندلس، لا أشعر ناحيتها بشعور الفردوس المفقود، ولا الحنين إلى عصر مضى، لأنَّ هناك أقطارًا إسلاميّة أخرى وحواضر مهمة كانت ممتلئة بالحضارة والمعرفة ولا أحد يحكي عنها ويشعر بالحنين إليها. مدن مسلمة في إفريقيا، ومدن آسيا الوسطى التي وقعت تحت الحكم السوفييتي. هل السبب الولع بكل ما هو أوروبي وينتمي إلى إسبانيا الحديثة وخلْطه بحضارة العرب؟ لا أدري.

لماذا لم توجد عصور وسطى إسلاميّة؟

قدَّم لنا المترجم عبد السلام حيدر هدية قيِّمة بنقل كتاب توماس باور إلى العربيّة، إذ حافظ على دقة التعبير وسلاسته. والكتاب مفيد للمتخصصين الذين ينساقون وراء التقسيم الأوروبي لتاريخ أوروبا ويطبقونه دون تروٍّ على تاريخنا العربيّ والإسلاميّ. يتميز الكتاب بأنّه نقد عقلاني ذكي وساخر للأحكام الغربيّة المسبقة حول الإسلام وتاريخه.

يقدِّم توماس باور الفصل الأول بعباراتٍ طريفة، فيقول في عبارة: “كان شارلمان حاكمًا أوروبيًّا مهمًّا من عصر مملكة تانج الصينيّة”، وعبارة: “كان هارون الرشيد حاكمًا شرق-أوسطيًّا مهمًّا في فترة العصور الوسطى”. كلتا الجملتين صحيحة، لكنهما بلا معنى، لأنّ أثر مملكة تانج لم يتعدَّ الصين، وكذلك لفظ العصور الوسطى هو ابن بيئة أوروبا ولا يدلّ على عصر هارون الرشيد.

يقدِّم توماس باور ستة أسباب لعدم صحة إطلاق مصطلح “العصور الوسطى الإسلامية”، مثل: عدم الدقة، فبدايات العصور الوسطى الأوروبيّة ليست بذات دلالة في العالم العربي.

السبب الثاني هو الاستنتاجات الخاطئة التي تحدُث بعد ذكرنا عبارة “عصور وسطى إسلاميّة”، تلك الافتراضات عما هو قروسطي لا تنطبق على العالم الإسلامي تاريخيًّا.

تجربتنا الدينية في العصور الواقعة في ما يسمى بالعصور الوسطى تختلف عن علاقة أوروبا بالدين.

وهناك الازدراء الذي نشعر به عندما نطلق عبارة العصور الوسطى، فهو ليس مصطلحًا بريئًا، فهو قرين الظلام الحالك ومحاكم التفتيش وسيطرة الدين، وهو نقيض عصر الأنوار، ودلالة المصطلح السلبية تظلم تجارب المسلمين التاريخيّة.

ينقد توماس باور المركزية الأوروبيّة في رؤية تاريخ العالم وكون المصطلح يحمل نبرة إمبريالية، فإنَّ وصم كل من أفغانستان والعراق بالقروسطية ساعد على جعل التدخل الأمريكي فيها أكثر قبولًا.

ثم يقدِّم توماس باور درسًا في الكتابة التاريخيّة المقارنة بفحص ومقارنة ستة وعشرين مثالًا يقارن فيها الحضارة العربية وأوروبا، والمدخل قد لا يتجاوز الصفحة الواحدة.

مقارنات في كثير من المفاهيم بين الضفتين، مثل الأمية ونسبة التعليم، إذ كان معظم الفرسان الصليبيين أميين، فيما يقاتل في الجانب المقابل أسامة بن منقذ، سيد قلعة شيراز على نهر العاصي، الذي كتب مذكراته “الاعتبار”.

مقارنات بين الحمّامات العامة، والفرص المتاحة في الحراك الاجتماعي داخل طبقات المجتمع المسلم وأوروبا التي كانت تميل إلى مجتمع الولادة الطبقي، مقارنة بين الأعياد واستخدام القرميد في العمارة. والالتفات إلى النزعة الفردية. ويعلق توماس باور على بيت المتنبي الذي يقول:

وما أنا مِنْهُمُ بالعيْشِ فيِهِمْ   / ولَكنْ مَعْدِنُ الذَّهَبِ الرَّغامُ

فيقول توماس: في أوروبا القرن العاشر الميلادي لا يمكن تصور قول بيت شعري يصف فيه الشاعر نفسه بأنّه قطعةٌ من الذهب بين أوغاش من البشر.

رحلة جميلة في الفرق بين الشعر العربي والأدب الأوروبيّ، ومقطوعات الغزل، والموقف من اليهود، وانتشار الورق في الحضارة الإسلامية والكتب، والفرق بين العمران البشري وشبكة المواصلات.

ثم يمضي الكتاب في التنظير حول محاولة اقتراح تسميات بديلة للحقب التاريخيّة لفهمها بدلًا من مصطلح “العصور الوسطى” المضلل والمشبع بالنكهة الأوروبية.

الترجمة جميلة وسلسة وفيها جهد في الحواشي، وتقرأ وأنت تشعر باطمئنان من بذل المترجم الجهد الكامل لتذليل النص للقارئ، وهو الذي سبق وقدَّم لنا سيرة آنا ماري شيمل إلى العربية، وننتظر منه تحفًا أخرى، ونرجو له دوام الصحة.

هذه دعوة لقراءة هذا الكتاب.

شارك

مقالات ذات صلة