فنون
الأديب الفرنسي “أونوريه دو بلزاك” هو واحد من أبرز الأدباء في التاريخ، ومؤلّفاته لاقت انتشارًا واسعًا على امتداد قرنين من الزمن، ومنذ نشأة السينما تم تحويل معظم رواياته إلى أفلام فرنسية وأوروبية وعالمية، بالإضافة إلى العديد من الأعمال التلفزيونية والمسرحية.
لا أُخفي عليكم أن الأعمال الأدبية ليست جميعها قابلة للتحويل إلى السينما، وروايات “بلزاك” تحديدًا تحمل ثقلًا أدبيًّا مُرهقًا، ومن الصعب أن نقرأها في السينما، و”بلزاك” يمتلك قدرة رهيبة في التوغّل في النفس البشرية بشكل يصعب حتى على الممثلين تجسيد شخصياته العميقة والمعقّدة.
كما أن رواياته زاخمة بالأحداث والشخصيات، ومن الاستحالة تحويلها إلى فيلم سينمائي دون المساس بجوهرها، ناهيك عن ذكر أنها غالبًا تكون طويلة جدًّا ومقسّمة على أجزاء، وأي كاتب نصوص سيكون مضطرًّا للتضحية بالكثير من الأحداث والشخصيات من أجل كتابة النص السينمائي لفيلمه، ولذلك أغلب الاقتباسات تفشل أو لا تعطي الرواية حقّها، فبالتالي فضّل صنّاع الأفلام الابتعاد عن أعمال “بلزاك” لتجنّب الوقوع في الفخ.
رواية “أوهام ضائعة” التي كتبها “بلزاك” صدرت على 3 أجزاء، بين عامَيْ 1837 و1843، وعدد صفحاتها يتجاوز 700 صفحة، وتعتبر من أقوى أعماله على الإطلاق ضمن سلسلته “الكوميديا الإنسانية”. الجزء الأول: “الشاعران”، والجزء الثاني “رجل كبير من المقاطعات في باريس”، والجزء الثالث “آلام المبتكر”.
بالطبع سيكون أمرًا شاقًّا بتحويل تلك الرواية الدسمة إلى فيلم سينمائي، حيث على امتداد القرنين لم يجرؤ أي صانع أفلام على اقتباس رواية “أوهام ضائعة”، على خلاف روايات أدبية شهيرة تحوّلت إلى عشرات بل مئات الاقتباسات السينمائية والتلفزيونية، مثل “نساء صغيرات” و”أوليفر تويست” و”آمال عظيمة” و”كبرياء وتحيّز” و”البؤساء” و”أحدب نوتردام” و”الكونت مونت كريستو” وغيرها الكثير والكثير.
أنا لا أنتقص من تلك الروايات، بل على العكس، فأنا أعشقها وأعشق معظم الأفلام المقتبسة منها، ولكن تلك الروايات كانت جاهزة على طبقٍ من ذهب لأي صانع أفلام، ولم تكن مقسّمة على أجزاء أو ضمن سلسلة مثل رواية “أوهام ضائعة”، والدليل على ذلك، كما ذكرت، أنّ هذه الرواية لم تخضع لأي اقتباس سينمائي من قبل.
الكاتب والمخرج الفرنسي “كزافييه جيانولي” وزميله الكاتب “جاك فيشي” قاما أخيرًا بعملٍ مدهش وجريء باقتباس الرواية، وكم كانت المهمة صعبة وشبه مستحيلة، بحيث ركّزا على الجزء الثاني منها في صياغة النص السينمائي والحوارات، وتخطّي بعض الأحداث من الجزء الأول والجزء الثالث، والنتيجة كانت فيلم سينمائي مدته تصل إلى ساعتين ونصف.
فيلم “أوهام ضائعة” هو أجمل فيلم فرنسي شاهدته في حياتي، ومن أفضل الأفلام على الإطلاق، فقد كان متكاملًا جدًّا، ومذهلًا ورائعًا وعظيمًا، والاقتباس السينمائي للرواية على يد “جيانولي” و”فيشي” لا تشوبه شائبة، وأفضل ما يمكن أن يكون، وأضمّه إلى قائمة أفضل الاقتباسات الأدبية في السينما.
لقد تمكّنا من اختزال جوهر الرواية بشكل مذهل دون المساس بمضمونها وهدفها، وطوال مدة الفيلم لم أستطع أن أحرّك رأسي من أمام الشاشة، فكل ثانية من الفيلم تم استغلالها باحترافية وإبداع، دون أيّة لحظة ضائعة من الحشو والإسهاب، بل كنت أتوق للمزيد من الوقت مع هذا الفيلم اللذيذ الذي جمع كل العناصر التي أعشقها في الفيلم السينمائي المثالي بمقاييسي الخاصة.
تدور أحداث القصة في فرنسا في القرن التاسع عشر مع “لوسيان شاردون” أو “لوسيان دو روبمريه” كما يحب أن يسمّي نفسه. “لوسيان”، ذلك الشاب الوسيم والحالم والطموح والمندفع، الذي بقصائده الشعرية يأسر قلب سيدة نبيلة تُدعى “لويز دو بارجتون”. إنه يحبها بصدق، وهي أيضًا يبدو أنها تبادله نفس المشاعر، ولكنها بالطبع خاضعة لقيود المجتمع المخملي.
يفتتح الفيلم مَشاهِدِه بشكل بديع، وبصوت راوٍ يسرد علينا قصة “لوسيان” قائلًا: “بالنسبة لـ لوسيان، كل شيء بدأ بالحبر، بالورق، وبطعم الجمال. يتيمًا بلا ميراث، وكان عليه أن يتعلّم مهنة من أجل البقاء على قيد الحياة. تزوّجت أخته إيف من عامل في مطبعة في أنغوليم، فكان يعمل في تلك الورشة المتواضعة، حالمًا بحياة أخرى”.
“لوسيان” يحلم أن يكون كاتبًا مرموقًا، وسقف طموحاته وشغفه يفوق الحياة الريفية التي يعيشها والمهنة الذي يمارسها، وبمساعدة عشيقته النبيلة “لويز دو بارجتون” تتاح له الفرصة كي يظهر موهبته إلى الملأ، ليذهب بعدها إلى باريس لمطاردة أحلامه.
كيف يمكنه أن يصمد في باريس التي أصبحت جامحة بعد الثورة ونشأة العصر الحديث، حيث صراع الأفكار والمبادئ، وانقسام المجتمع بين الملكيين والمعارضين. “لوسيان” البريء لا يعلم أنه دخل إلى الجحيم من أوسع أبوابه.
هذه باريس في أشنع عصورها، حيث الفساد والانحلال، والخسّة والدناءة، وانعدام الضمير والمشاعر. ما كتبه “بلزاك” على الورق وما صوّره “جيانولي” على الشاشة كان شيئًا مخيفًا ومروّعًا، فالقصة تكشف لنا باريس عارية تمامًا، كامرأة فاسقة تغوي “لوسيان” في ملّذاتها حتى بات أسيرها وتحت قبضتها.
لقد ذكّرني هذا الفيلم بفيلمي المفضّل “Amadeus” من نواحٍ كثيرة، ابتداءً بالبطل. “وولفغانغ أماديوس موزارت” و”لوسيان دو روبمريه” كلاهما شابّين موهوبين ومخبولين وصلا إلى قمة النجاح والمجد والشهرة، ثم تم سحقهما من قبل المجتمع المخملي والنظام الطبقي. كلاهما يبدوان مغرورَيْن وساذجَيْن وبريئَيْن وتملأهما الثقة بالنفس، وفي لحظةٍ ما نشعر أنهما يستحقان ما سيحدث لهما، ثم في النهاية نشفق عليهما!! الحقبة الزمنية قد تكون مختلفة، ولكن البيئة هي ذاتها والمجتمع المخملي نفسه تمامًا، سواءً في فيينا أو في باريس، وكذلك الوسط الفني والأدبي، والحفلات الراقصة.
الراوي في فيلم “Amadeus” والراوي في هذا الفيلم هما تجسيد لنفس الفكرة. الراوي في كلا الفيلمين هو ندٌّ للبطل، يحبّه ويغار منه، ويحترمه ويحسده، ويريد أن يسحقه ولا يريد إيذاءه. إنه يحمل كمًّا هائلاً من التناقضات التي تجعل القصة أكثر تشويقًا، فكم أستمتع بهذه الشخصيات المتناقضة في الأدب والسينما.
حبكة القصة الرئيسية تنطوي في قوة الصحافة وألاعيبها وتأثيرها، وفي الحقيقة هي تُحاكي أيضًا زمننا الحاضر بشكل أو بآخر، فالصحافة كانت الوسيلة الإعلامية الوحيدة آنذاك، ونحن اليوم لدينا شتّى وسائل الإعلام من التلفزيون والإذاعة وتطبيقات التواصل الاجتماعي العديدة.
مثل الحياة في المحيطات والبراري، حين نرى القوي يأكل الضعيف، ومن يملك المال الأكثر يستطيع بيع وشراء كل شيء، سواءً الأشخاص أو الآراء أو الذمم. باريس كانت تعيش حربًا تنافسية صحفية بين الصحافة الحكومية الملكية والصحافة الصفراء الليبرالية الجدلية في جوٍّ أقرب للمافيا، حيث الرشاوي والمؤامرات الانتهازية والصداقات الزائفة.
لم تكن الحياة في باريس جنّة كما تخيّلها “لوسيان”، فعشيقته النبيلة “لويز دو بارجتون” تخلّت عنه بعد أن شجّعته للذهاب إلى هناك، ولذلك هو يبحث عن لقمة العيش، وسيقبل بأيّة وظيفة لائقة تدرّ عليه مبلغًا محترمًا ومركزًا لائقًا، وحين يبدأ العمل في صحيفة من تلك الصحف المُعارضة التي تمثّل رعبًا للنبلاء والكُتّاب والفنانين والسياسيين وغيرهم، تنقلب حياته رأسًا على عقب، فلا أحد منهم يريد أن يُكتَب عنه مقالًا نقديًّا لاذعًا وساخرًا يشعل الرأي العام ويؤثّر على حياته ومسيرته.
موهبته الأدبية ولغته البليغة في الكتابة والشعر أهّلته ليصبح أبرز كاتب وناقد صحفي، فبالتالي “لوسيان” وضع باريس بأكملها تحت سطوة قلمه، وبات يشعر بالقوة، ويتوق للحصول على ما يريد، ويرغب في الانتقام من كل من وقف في طريقه وخذله.
الفيلم يحكي قصة صعود وسقوط “لوسيان دو روبمريه” في باريس، وهو يطارد أحلامه، متسلّحًا بموهبته وشغفه وجماله، دون أن يدرك أنه يحتاج إلى الذكاء والدهاء والمكر حتى يصل إلى غايته، وبصعوده السريع لا يعي “لوسيان” أنه يصعد ليهوي على وجهه.
“بنجامان فوازان” هو سر جمال الفيلم وروعته، فقد تقمّص شخصية “لوسيان” بشكلٍ رهيب وآسر للحواس، فلا أتخيّل ممثلًا آخر يؤدي الشخصية، بملامح وجهه الجميلة ونظراته الحالمة وإيماءاته وانفعالته وطريقة حديثه وضحكته المتميزة. “فوازان” جسّد في شخصيته البراءة والغطرسة والغرور والطموح والشغف والاندفاع والثقة بالنفس والسعادة والحزن والغضب واليأس، وقد أدهشني حقًّا.
“سيسيل دو فرانس” أدّت شخصية “لويز دو بارجتون” بشكل جميل، وكذلك “سالومي ديويلز” أبدعت في أداء شخصية الممثلة المسرحية الشابة “كورالي”، التي تقع في حب “لوسيان”.
“جان باليبار” أدّت شخصية السيدة النبيلة الماركيزة “ديسبار”، التي أعتبرها من أحقر الشخصيات التي قد نقابلها في المجتمع المخملي، فهي تمثّل الشر المطلق الذي يحيط ببطلنا “لوسيان”، وقد تمكّنت “باليبار” من تقمّص الشخصية بشكل رائع. “أندريه ماركون” أبدع أيضًا في شخصية البارون “دو شاتليه”، الذي يحاول استمالة النبيلة “لويز دو بارجتون” للوصول إلى غاياته، ويرى أن “لوسيان” يقف في طريقه ويجب إزاحته.
“فنسان لاكوست” أبدع في شخصية “إتيين لوستو”، وهو رئيس تحرير الصحيفة المعارضة، وهناك مشهد رائع يجمعه مع “لوسيان”، وهما يتحدثان عن فنون النقد الصحفي اللاذع والساخر. “جيرار دوباردو” الذي يعتبر الممثل الفرنسي الأبرز في السينما الفرنسية، يشارك هنا كضيف شرف بشخصية “دوريا”، الذي يُعدّ من أهم الناشرين في باريس، وكالعادة أبدع في أداء الشخصية.
“كزافييه دولان” أدّى شخصية “ناتان”، وهي شخصية استثنائية في الفيلم، فقد قام الكاتب والمخرج “جيانولي” وزميله الكاتب “فيشي” بدمج 3 شخصيات من الرواية في شخصية واحدة في الفيلم، وأقصد بذلك دمج شخصية “راؤول ناتان” الصحفي الماكر، وشخصية “دانييل دارتز” الكاتب المجتهد، وشخصية “ملكيور دو كاناليس” الشاعر الناجح. إنه ذاته ذلك الصحفي والكاتب والشاعر الذي يرافقنا من بداية الفيلم كراوٍ لقصة “لوسيان”، وأرى أن اختيار “دولان” لتجسيد هذه الشخصية المركّبة والمبهمة كان اختيارًا موفّقًا، والتي أقارنها بشخصية “سالييري” من فيلم “Amadeus”، من حيث بنائها وعلاقتها بشخصية بطل القصة.
لقد أبدع “جيانولي” في اقتباس الرواية وصياغة النص السينمائي وإخراجه بحرفية بصرية مبهرة، بتركيزه على كل التفاصيل الدقيقة حول القرن التاسع والمجتمع الباريسي المخملي، والمظاهر الثقافية والفنية والإعلامية لتلك الحقبة المندثرة.
لا أبالغ حين أقول أن هذا الفيلم متكامل، والتصوير كان مدهشًا، باللقطات القريبة والبعيدة، والانتقال بين المشاهد واللقطات كان سلسًا، ولذلك أشيد أيضًا بالمونتاج الاحترافي المتقن. مواقع التصوير في منتهى الروعة، وكأنني أسير في شوارع باريس القديمة، ولا أنسى الأزياء الخلّابة والجميلة، بالإضافة إلى المكياج وتصفيف الشعر.
لم يستخدم الفيلم موسيقى تصويرية خاصة به، وبدلًا من ذلك فضّل المخرج الاستعانة بمجموعة من الموسيقات الكلاسيكية التي تلائم تلك الحقبة، وبالفعل كانت اختياراته موفقة، فبالتالي أتيحت لي الفرصة أن أشاهد هذا الفيلم على أنغام “فيفالدي” و”شوبيرت” و”شتراوس” وغيرهم من الموسيقيين العظماء.
أثبت “جيانولي” أنّه ليس هناك شيءٌ مستحيل يعيق صانع الأفلام المبدع من تقديم القصة التي يريدها برؤيته الخاصة، على الرغم من أن أغلب الاقتباسات الأدبية الثقيلة في السينما تكون مملّة وأشبه بمحاضرة في الجامعة، ولكن هنا استطاع “جيانولي” أن يحوّل تحفة أدبية إلى مأدبة سينمائية لذيذة.
أضم هذا الفيلم الدرامي الرومانسي التاريخي إلى سلسلة سأُطلق عليها اسم “النُبلاء السادّيون”، بجانب فيلم “Amadeus” للمبدع الراحل “ميلوش فورمان”، وفيلم “The Age of Innocence” للمبدع العملاق “مارتن سكورسيزي”، وفيلم “Anna Karenina” للمبدع الحالم “جو رايت”. جميع الأفلام الأربعة أعتبرها من التحف العظيمة، وتجمعها العديد من العوامل المشتركة، وحين تشاهدون هذا الفيلم ستتذكرون تلك الأفلام الثلاثة بكل تأكيد.
اكتسح هذا الفيلم جوائز السيزار، التي تعادل الأوسكار في فرنسا، محقّقًا الفوز بـ 7 جوائز لأفضل فيلم وأفضل نص سينمائي مقتبس وأفضل ممثل واعد “بنجامان فوازون” وأفضل ممثل مساعد “فنسان لاكوست” وأفضل تصوير وأفضل تصميم مواقع وأفضل تصميم أزياء.
بينما ترشّح لنيل 8 جوائز أخرى لأفضل إخراج وأفضل ممثل مساعد “كزافييه دولان” وأفضل ممثلة مساعدة “جان باليبار” وأفضل ممثلة مساعدة “سيسيل دو فرانس” وأفضل ممثلة واعدة “سالومي ديويلز” وأفضل مونتاج وأفضل مؤثرات صوتية وأفضل مؤثرات بصرية.
فيلم “أوهام ضائعة” كان مفاجأة غير متوقعة بالنسبة إليّ، فمن النادر مؤخرًا أن أجد فيلمًا يجمع كل العناصر التي أحبها معًا: الأدب والمسرح والفن والموسيقى الكلاسيكية والقرن التاسع عشر والمجتمعً المخملي وباريس، ويكون الفيلم متقنًا جدًّا، ومبهراً للحواس فنيًّا وتقنيًّا وتمثيليًّا، وزاخمًا بالأفكار والدروس، حول أطماع البشر وشغفهم وطموحاتهم، وحول صعودهم وسقوطهم، وحول أوهامهم الضائعة، وحول أولئك الذين يجب أن يجدوا شيئًا ما في أنفسهم بعد خيبة الأمل.