تجارب

إحسان عباس.. سنوات في مصر بعد نكبة فلسطين (2)

إحسان عباس.. سنوات في مصر بعد نكبة فلسطين (2)

السفر إلى القاهرة

اصطحب إحسان عباس زوجته، وابنته نرمين، وابنه إياس، إلى القاهرة من فلسطين. كانت سن إحسان وقتها ستًّا وعشرين سنة، وهذه السن تُعتبر كبيرة على الدراسة في الجامعة. أدخلوه السنة الثانية على اعتبار أن المواد التي درسها في الكلية العربية بالقدس تؤهله ليتجاوز السنة الأُولى في الجامعة. ذهب إلى مصر دون مدخرات، مع أن راتبه لا بأس به، ومع هذا فأبوه كان ينفق عليه بعد زواجه، أمَّا نقود إحسان فكانت تذهب إلى شراء الكتب.

يستمر إحسان في وصف سنواته القاهرية في حواره مع علي العميم، حيث سكن إحسان مع عائلته في شقة في منيل الروضة، وكان يأخذ راتبًا قدره 25 جنيهًا في السنة، يأخذ حصته منها كل شهر. هذا الراتب الذي كان يأخذه من إدارة المعارف في حكومة الانتداب البريطاني، يُعتبر بالنسبة إليه ثروة في القاهرة، كان يعيش بخمسة عشر جنيهًا، وإيجار الشقة كان يكلفه سبعة جنيهات.

في سنة 1948 ذهبت حكومة الانتداب البريطاني، فانقطع عنه راتب البعثة، فأصبح مفلسًا لا يملك مليمًا واحدًا. عنده عائلة وعنده إيجار شقة، فكيف يعيش؟ كان صاحب الشقة نبيلًا كريمًا معه، إذ قال له: يا إحسان، لا تهتمّ، فلن أسألك عن الأجرة أبدًا، فأنت كنت منتظمًا في دفعها حينما كانت بين يديك النقود، ولن أضايقك بالمطالبة بها حين أصبحت في ضيق. لقد أثَّر فيه موقف هذا الرجل أيما تأثير.

كان مع إحسان بعض الزملاء الذين يدرسون في جامعة القاهرة على حساب أهاليهم، فكان يقترض من مصروفهم الخاص، فأمضى ذلك العام العصيب بالاستدانة من الزملاء.

أتى إحسان عباس القاهرة وهو يحمل كتابين، ترجمة لكتاب الشعر لأرسطو، وكتاب أبي حيّان التوحيدي، وهو الكتاب الذي حاول أول ما وفد إلى القاهرة أن يطبعه، لكنه لم يُوفق، وقد دار به على دور نشر عديدة، وكانوا يسألونه: “ما عملك؟”، وكان يردّ: “طالب”، فيقولون: “ألا ترى أن عملية التأليف ما زالت مبكرة عليك؟”، فطوى إحسان الكتاب وقال لنفسه: “خليك مؤدب، وأجِّل عملية التأليف إلى أن تتخرج من الجامعة”. لذلك لم يقدم ترجمته لكتاب الشعر لأرسطو اتعاظًا بالخذلان الذي واجهه في محاولته لطبع كتاب أبي حيان التوحيدي. والترجمة سبقت عملية التأليف عنده، فكتاب الشعر لأرسطو يُعتبر أول عمل له.

 

متأخرات البعثة.. وصرف رواتب الأشهر المستجدة على يد الفراش سلطان

كان لا بد لإحسان لكي يحصل على مستحقاته المالية من تعريف من الكلية يثبت أنه طالب منتظم بالدراسة ولم يتركها، ولكي يحصل على هذه المستحقات ذهب إلى عميد الكلية محمد زكي حسن، يطلب منه شهادة تعريف للسفارة البريطانية بأنه طالب منتظم في الجامعة. ولم يوافق العميد على أن يعطيه إياها، لأنه كان بيروقراطيًّا، مع أنه كان يعرفه ويعرف ما يمرّ به من حالة الإفلاس والتسكع، إذ برر العميد الأمر بأنه لا يستطيع أن يضع ختم الجامعة على ورقة تعريف غير مكتوبة باللغة العربية، لأن ذلك مخالف للوائح والجامعة وأنظمتها.

رجاه إحسان كثيرًا، ومع ذلك أصرَّ العميد على الرفض، ثم خرج من غرفته حزينًا مغتمًّا لا يلوي على شيء، فقابله فرّاشه سلطان على الباب، وقال: “ما بالك مهمومًا يا بنيّ؟”، فأخبره إحسان بما كان من موقف العميد، فقال الفراش سلطان: “الرسالة معك؟”، قال إحسان: “نعم”، فأخذها سلطان منه، وأخرج من جيبه ختم العميد وختمها له، وهكذا حُلَّت المشكلة، فأخذها إحسان منه وطار يجري فرحًا للسفارة البريطانية بسرعة، قبل أن يكتشف العميد الأمر، فتسلَّم بهذه الرسالة التي مهرها له الفراش سلطان بختم العميد متأخرات البعثة، ورواتب الشهور المستجدة، وكان مجموع المبالغ التي تسلَّمها خمسمئة جنيه. فيا لهذه الثروة العظيمة التي انهالت عليه!

أول شيء فعله بها أنه أقام وليمة في بيته، ودعا لها الطالبَين اللذَين طالما استلف منهما، فوقف إحسان على «الترابيزة» خطيبًا، متمثلًا أمامهما بقول عمر بن الخطاب: «جاءتنا أموال تُعَدّ ولا تُحصى، فمن شاء أن يكيل كيلًا أو يَعُدّ عَدًّا فليفعل»، ثم نثر الجنيهات على الترابيزة وقال لصاحبَيه: “الآن تستوفيان دَيْنَكما، ولن تُعَيِّراني بعد الآن بأني مَدين لكما”.

هكذا عاش إحسان عباس في القاهرة في سنوات النكبة، وانقطعت الصلة بينه وبين أهله، ثم عندما تخرج ذهب للتدريس في السودان، حينما ذهب إليها عام 1951. فيبدو أن أهله تعرفوا على مكان إقامته من المقالات التي كان يكتبها من هناك في الصحف والمجلات، إذ إنه دائمًا ما يقرن بتوقيع اسمه على المقالات التي كان يكتبها مكان عمله، فكان يضع اسم «كلية غوردون التذكارية بالخرطوم» عقب اسمه في ذيل المقالة.

فجاءته رسالة منهم على عنوانه في الخرطوم تخبره بأنهم أقاموا في العراق. لم يتسنَّ لإحسان زيارتهم في بغداد إلا عام 1953، فكانت العلاقة بينهم في حدود المراسلة، لأن الطيران بين الخرطوم وبغداد كان مقصورًا على الإنجليزي، ولم يكُن مسموحًا لهم بركوب الطائرات، وسافر إلى أهله في بغداد عام 1953.

سأله علي العميم في هذا الحوار: “لماذا ذهب أهلك إلى العراق بالتحديد؟”، فردَّ إحسان: “لهذا قصة. عندما سقطت حيفا، صمدت قريتنا وقريتان أخريان بجوارهما في المقاومة ستة أشهُر، ولم تسقط. الجيش العراقي الذي كان مرابطًا قُرب هذه القرى أُعجب بصمودها، فكان يمدّ أهلها بالذخيرة والسلاح، فانضمَّت قرى أخرى إلى صف المقاومة، إلى أن قطع الجيش العراقي إمداداته عنها، والسبب أنه «ماكو أوامر»، كما قيل لأهل هذه القرى المستبسلة. هذه القرى بعد قطع الإمدادات سقطت، ورحل أهلها إلى منطقة جنين، في مثلث فلسطين (مرج ابن عامر)، فنصبوا خيامهم هناك. كانوا في حالة من التعاسة يُرثى لها، ووافق أن جاء الأمير عبد الإله إلى هذا الموقع، يتفقد الجيش العراقي، فاتفق شيوخ القرى على أن يذهبوا إليه في وفد، وذهبوا إليه وشكوا حالهم إليه وقالوا له: يا أيها الأمير، ليس هناك بلد يقبلنا، فإلى أين نذهب؟ الأمير عبد الإله عطف على حالهم، وفي لحظة أعطى أوامره بأن ينقل أهل هذه القرى في شاحنات إلى بغداد، نساءً وأطفالًا ورجالًا، فأسكنوهم في بيوت اليهود العراقيين الذين هاجروا إلى فلسطين. وأشهد أن العراقيين عاملوهم تمامًا كالعراقيين”.

 

التوقف عن الشعر

توقف إحسان عباس عن كتابة الشعر تقريبًا في أثناء دراسته بجامعة القاهرة، رغم ترشيحه لنفسه منذ البداية أن يكون شاعرًا قبل أن يكون أي شيء آخر، لكن إحسان قتل في داخله بعنف هذا النزوع إلى نظم الشعر، فقد مرَّت عليه لحظات في القاهرة كان يجب أن يكتب فيها شعرًا، فكان إحسان يرمي القلم ويترك الورقة ليخرج للشارع، ويمشي طويلًا حتى يُنهَك، فيعود إلى البيت متعبًا، فإذا بهذه الرغبة الطارئة قد انطفأت نهائيًّا. لا يدري إحسان بالتحديد ما السبب، وهناك في الحقيقة أكثر من سبب، منها أنَّ حِسّ الناقد كان قويًّا منذ البداية في داخله، مما جعله يتشدد في التعامل مع هذه الموهبة. لذلك حينما أراد الاحتفاظ بما نظم من شعر، حذف ثلثه. يبدو أن طموحه الشعري كان كبيرًا.

أُنهي حديثي عن إحسان عباس بهذه القصة الطريفة التي حكاها عن أحد الناشرين، فقد دخل على ناشر مشهور، فاستخرج كتابًا تراثيًّا كان يحضّره للطبع، وطلب منه تحقيقه، فقال له إحسان إنَّ هذا الكتاب يحتاج إلى مراجعة على مخطوطات أخرى، وهي ليست متوفرة، فأجاب محتدًّا: “ماذا تقول؟ قبل يومين تسلمت 9 كيلوجرامات مخطوطات من البريد، فما حاجتك إلى مخطوطات أخرى؟”. ولديَّ منها هذا الوزن. هذا ناشر يتعامل مع المخطوطات بالكيلو.

شارك

مقالات ذات صلة