فكر
الكاتب: عصام يزبك
منذ اندلاع الثورة السورية قبل أكثر من عقد، لم تتوقف مأساة هذا البلد عند حدود الدمار المادي أو النزوح الجماعي، بل تحولت إلى جرح مفتوح يطعن قلب المنطقة بأكملها. مدن مدمّرة، أحياء متهالكة، اقتصاد منهار، ونصف الشعب تقريباً بين لاجئ ونازح. ومع ذلك، ورغم قسوة المشهد، ما زالت سوريا تحتفظ بمكانتها المركزية في الوعي العربي، جغرافياً وثقافياً وتاريخياً.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يملك العرب القدرة والإرادة على أن يكونوا روّاد الحل لا مجرد متفرجين؟ ماذا لو أطلقوا خطة عربية طموحة لإعادة إعمار سوريا، تحاكي في جوهرها “خطة مارشال” التي أنقذت أوروبا من أنقاض الحرب العالمية الثانية؟
غالباً ما يُختزل الحديث عن إعادة الإعمار في صور الأبنية المهدّمة أو البنى التحتية التي تحتاج إلى إعادة تأهيل. لكن التجارب الكبرى في التاريخ تثبت أن الإعمار الحقيقي لا يبدأ بالحجر بل بالإنسان. “مارشال عربي” لسوريا يجب أن يتجاوز منطق الدعم المالي العابر إلى مشروع حضاري شامل يضع الإنسان السوري في قلبه.
ذلك يعني بناء نظام صحي حديث يضمن حق الرعاية للجميع، وتأسيس جامعات ومراكز بحث تفتح آفاقاً جديدة للأجيال القادمة، إلى جانب إعلام حر يعزز ثقافة الشفافية والمساءلة، واقتصاد منتج يخرج البلاد من دائرة المساعدات إلى دائرة الإنتاج والاستقرار.
قد يتساءل البعض: لماذا التركيز على سوريا في منطقة مليئة بالأزمات؟
الإجابة تكمن في خصوصية هذا البلد. فسوريا ليست مجرد ساحة صراع محلية، بل عقدة جيوسياسية محورية تؤثر على أمن المشرق كله. استمرار النزيف السوري يعني المزيد من اللاجئين، والمزيد من الفوضى التي تتجاوز حدودها. أما نجاح مشروع تنموي فيها فسيكون بمثابة نموذج يعزز الاستقرار ويعيد الثقة بقدرة العرب على صناعة التغيير.
حتى الآن، ما تزال غالبية الدول العربية تتعامل مع الملف السوري بحذر شديد، إما بفعل ضغوط إقليمية ودولية، أو نتيجة خلافات داخلية حول شكل الحل السياسي. النتيجة أن الدور العربي ظلّ هامشياً في واحدة من أعقد أزمات المنطقة.
لكن الفرصة ما زالت قائمة. فالمجتمع العربي يمتلك ثروات مالية هائلة، وكفاءات بشرية قادرة على صياغة مشروع استراتيجي حقيقي. المطلوب فقط هو قرار جريء يضع المصالح المشتركة فوق الحسابات الضيقة، ويمنح سوريا أفقاً جديداً بعيداً عن لعبة المحاور الدولية.
إن نجاح “مارشال عربي” في سوريا لن يقتصر أثره على هذا البلد وحده. بل قد يشكّل نقطة تحوّل أوسع تفتح الباب أمام تعاون عربي تكاملي في مجالات التنمية والتعليم والاقتصاد، ويعيد الاعتبار لفكرة الوحدة العربية من منظور عملي وملموس لا شعاراتي.
فإعادة إعمار سوريا ستكون رسالة بأن العرب قادرون على إعادة بناء ما تهدّم بأيديهم، وأن بإمكانهم تحويل المأساة إلى فرصة تاريخية لإطلاق نهضة إقليمية طال انتظارها.
سوريا اليوم بحاجة إلى أكثر من تضامن عاطفي أو مساعدات موسمية. هي بحاجة إلى خطة عربية استراتيجية تعيد إليها الحياة وتعيد للمنطقة توازنها. السوريون يملكون الإرادة، والعرب يملكون الإمكانات، وما ينقص هو القرار.
السؤال الذي ينبغي أن يواجهه القادة العرب اليوم ليس ما إذا كان هذا ممكناً، بل: هل نملك الشجاعة لنبدأ؟