تأملات
لم أكن أتخيّل أن يأتي اليوم، وكم كنت أتخيّله! كان شبحًا يلاحقني كما يلاحق الكثيرين، وكان الأمل يغالبه كلّما أطلّ الشاب البهيّ على الشاشة مع دخول النّشرة، أقول الحمد لله ما زال أنس حيًا، كم غارةٍ سمعها، وكم محرقةٍ أحسّ بصهدها، وكم مجزرة أصابت ثيابه من دماء أصحابها، وكم ليلة حرم النوم بتهديد جديد، وكم سأل نفسه هل يقتلونه بطائرةٍ أم برصاصة؟ هل سيؤلمه الصاروخ أم يكتب سريعًا النهاية؟ هل القصف يوجع مثل سماع صوته؟ وهل ينبض القلب بالخوف في آخر دقاته أم يكون متئدًا؟ وهل سيُذاع الخبر من دون أن أقدمه أم سيحاولون إعادة النبض فيّ لثوانٍ كي أنقل الخبر الأخير، خبري، ثم يدعونني أخيرًا لأموت، هل سأمضي الليل مرتاحًا بلا ضجيجٍ ولا صراخ ولا بحة صوت، هل ستفهم شام وصلاح الخبر؟ هل سيعذرانني الأولاد؟ على كل حال، باسمك اللهمّ، نموت.. ونحيا.
في مرة من مرات حديثنا، وكنت لا أحب أن أشقّ عليه إلّا بتواصلٍ متقطّع حتى لا أشغله، قال إنّه متعب، إنّه تفكير بلا جسد، سألت نفسي، وماذا يفعل رأسك الصغير يا أبا صلاح؟ فما التفكير الواجب على عقولنا نحن إذًا؟ أديت ما أديت، وجهادك قائم لا ينقطع، وقدماك ثابتتان لا تغادران جبهتك، وجبهتك ناصعة بالصدق لا ينطفئ نورها، ثمّ بعد ذلك كلّه تفكر؟ يا رجل! أبالله لا تسخر؟ كيف يشغلك بالله شاغل؟ وهل من واجب آخر عليك القيام به ونحن لا نعلم؟ تفكير من الخذلان أم من الاستيئاس أم من الضجيج الذي يحاولون من خلفه اغتيالك؟ أم من التفكير في القنّاصة على السّطح المقابل في أيّ لحظةٍ أرادوا، أم كواد كابتر حقيرة تظنّها كلّ مرّةٍ قادمة خصيصًا إليك؟
أدركتُ فيما يدرك الغافل، أنّه تفكير الراجل إلى ربه، انشغال من سيترك ذريةً وزوجة وأُما وأختا من خلفه، لمن يدعهم؟ ليس بعد الله خوف ولا حزن، ولكنّها طبائع النفوس حين تعتزم الجهاد فلا ترجع من مالها أو نفسها بشيء، وتفكير الذي يربطه موعد قريب بخالق الزمان والمكان، بذي الجلال والإكرام، بمالك الأكوان والعالمين، تفكير في الجنة، وتفكير في اليوم الآخر، وتفكير تمحيص النفس وتزكيتها ممّا يشوب العمل ويلهب الفؤاد أن يمضي الرجل وفي صدره شبهة تخالطه، لكنّه سرعان ما يفرّ إلى ربه فيجد أن لا داعي لتفكير واحد، إلّا بما سيشغله بعد قليل: “إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ”، ذلك هو الشغل والانشغال، لا شيء آخر.
وكأنّ الجواب أتاه سريعًا من الأعلى فأرسله إليّ: “ما في شيء ببلاش”، صدقتَ يا أنس! وأصبت كبد الحقيقة -وإن أدميت أكبادنا معها-، إنّ الله اشترى، تلك هي الصفقة إذًا يا رجل! ذلك هو التفكير! تجارة مع الله وذهاب إلى جنانه؟ اختيار لفردوسه على فراديس الدنيا التي تخرّ بين يديك لو أردت؟ “القضيّة بدها تضحية”، كانت تلك هي الجملة الأخيرة في ذلك الحوار المقتضب، الذي يلخص حياةً كاملة بين الشقاء الحالي، والنعيم المؤجّل، كنت تقنع نفسك بالصفقة، وكنت مقبلًا عليها وتريدها، ولكن ليطمئن قلبك، بين مشقّة الجسد والرأس، وبين حقيقة الحياة والموت، وبين اختيار الثّغر والجزاء. لخّصتها، ومشيت تريد السوق: من يدلّني على جوار الله؟
ودلّوك حقًا، وفعلًا وصدقًا، إسماعيل وحمزة والرفاق، حملوك في قلوبهم، فحملتهم على ما هو أعلى منها، على كتفيك، تزفهم إلى الأعلى لا إلى الأسفل، إلى قطعة من الجنّة في أرض غزّة، حيث وجبت الراحة على المقاتلين، وتهيّأت الفراديس للمخلصين، وأنبت الطين وسائد وأرائك على مقربة من السطح، يراها الناس مقبرة، وتراها فراشا وثيرا لم تخلد إليه بعد، ولا يخلد إليه سوى الخالدين، حيث لا تفنى الأجساد، ولا تفنى الفكرة، لا يفنى شيء سوى التّعب والنّصَب والصياح والمخمصة، آهٍ كم هي جميلة تلك الخاتمة! مكان لا أرى فيه الدم، ولا تلاحقني فيه أشلاء الصغار، ولا أرى فيه رؤوس الأطفال مقطوعة؛ تلك تحديدًا، ولو من دون أيّ إضافة، هي أعظم الجنان!
ودنا اليوم الموعود يا أنس، ورأيتك فيما يرى اليقظان ، تجول وتصول من جبهةٍ إلى جبهة، سلاحك المذياع لا الياسين، وبيدك العدسة لا شواظ، وكتيبتك المشهد لا المشهد، تدنو من الموت في كلّ زيارةٍ لملكه، تقدّم نفسك من جديدٍ عسى الله يأذن باللقاء، وتقول: أنس الشريف – الجزيرة، لكن لا يلتفت الموت إليك إلّا بابتسامة تفهمها في وجوه الشهداء الناظرين إليك، الناظرين إياك، وتحرص كلّ يوم على الذهاب إلى حيث يمرّ موكب الأكفان، ولا جديد، حتى وصلتك الرسالة، وبتَّ أكثر خفةً، وأقل مبالاة، وأهدأ بالا، وأهنأ صدرًا، مستعدًّا للرحيل. ورحلت.
رحلت وأودعت في صدورنا وحشةً لا تلائم اسمك أو هي أكثر ما تلائمه، المنطق وعكسه، الشيء وضده، كلّ شيءٍ محشور في حلوقنا يجرعنا كؤوس الموت والحياة، يشنّف أسماعنا لصوت لن يقول بعد اليوم أيّ شيءٍ جديد، تصمت طويلًا ونحكي طويلًا، تبتسم ويتعالى نشيجنا، ارتطمت رأسي بيدي بينهم ألف مرة، أنتحب نحيب الصغار الذين يودعون أخًا كبيرًا، كان في نفس أعمارهم، لكنّه يكبرهم بكثير!
أوتدري؟ شعور “اليتم” تجاه “أخيك”!