مجتمع
شهدت الساحة السورية انفتاحاً كبيراً بعد سقوط نظام الأسد، انفتاحاً على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية، ولا سيما في صناعة المحتوى الرقمي.
لا يمكن تجاهل دور صناع المحتوى في توجيه الرأي العام والتأثير فيه، ولولا ذلك لما كانت أولى اجتماعات المحافظين في دمشق وحلب وحمص وباقي المحافظات تعقد مع صناع المحتوى والمؤثرين قبل أي نخبة أو فئة أخرى من المجتمع، في خطوة أيدها البعض ووصفها آخرون بأنها استفزازية.
كان واضحاً إدراك الحكومة ومؤسساتها لدور صناع التأثير، لما يمتلكونه من أرقام ومتابعين يمكنهم في لحظة حشدهم أو إسكاتهم. والكثير من الأشخاص الذين كانوا بعيدين عن الشأن السوري انخرطوا فيه فجأة بقوة؛ أخذوا من سوريا والتحرير ترنداً لامعاً لا يمكن تفويته، فتراهم في كل حدث أو مأساة حاضرين.
أصبحوا حقوقيين وسياسيين وعارفين بكل ما يخص الشأن السوري. في كثير من الأحيان، لم يكن هذا الاهتمام لدى البعض إلا بداعي شروط وسياسات الشهرة واستغلال الأحداث وكل ما يثير الجدل ويحول القضايا إلى ترند؛ والمقصود بالترند تحويل موضوع إلى حدث ساخن يُكرر تناوله على وسائل التواصل.
يبرز المؤثرون وصناعة المحتوى الرقمي اليوم كقوة لا يستهان بها في تشكيل المشهد الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي، ويشغلون موقعاً محورياً: وصول سريع للناس، تأثير في الرأي العام، استقطاب وتجييش في أحيان كثيرة، جهة إعلامية مؤثرة.
يستخدم بعض صناع المحتوى منصاتهم والأرقام التي يمتلكونها للحشد والتجييش الطائفي أو تغذية الانقسامات الداخلية والسياسية في المجتمع، فتنتشر شائعات على تليغرام وتتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى أداة لنشر الأخبار والسبق الإعلامي. هذا إذا استثنينا المحتوى الاستهلاكي (محتوى التفاهة)، فهذا النوع من المحتوى يعتبر خارج التحليل أصلاً ولا يمكن تصنيفه إلا بالمحتوى الاستهلاكي.
تتداخل تأثيراتهم الإيجابية والسلبية على حد سواء؛ وفهم هذا التأثير يتطلب تحليلاً لكيفية مساهمتهم في سرد الواقع السوري.
توجه العديد من صناع المحتوى مع بداية 2025 إلى الترويج لسوريا بأنها بلد الأمن والأمان، منشغلين بالترويج للجانب السياحي فيها كالسواحل والمدن القديمة والبيوت الدمشقية التي أصبح معظمها فنادق أو مطاعم، متناسين المدن المدمرة بعد بضعة كيلومترات، أو في بعض الأحيان لا يتعدى الفرق بين المدينة الآمنة التي يروجون لها والأحياء المدمرة حيّاً أو شارعاً.
ساهم هذا التوجه في تجاهل معاناة الناس وغياب صوتهم؛ إذ كانت صور المؤثرين تتغنى أمام الجامع الأموي والسيف الدمشقي، بينما يعيش الكثير من السوريين أسوأ الظروف الاقتصادية والاجتماعية، كالبحث عن المفقودين ومواجهة واقع غياب المعتقلين إلى الأبد، والفوضى وغياب الأمن في المناطق غير المستقرة عسكرياً مثل شمال شرق سوريا والجنوب السوري، عدا عن فوضى السلاح المستمرة إلى الآن. كل هذا لم يتحدث عنه صناع المحتوى، فمثل هذه الأخبار لا تفي بالغرض ولا يمكن الاستفادة منها في الوصول والمشاهدات والأرقام.
اختزل بعض المؤثرين سوريا بأنها الحارات القديمة والساحل السوري، مع تجاهل غير مفهوم لباقي المحافظات والدمار الذي خلفه نظام الأسد؛ اختزلوا سوريا أو دمشق بأنها دمشق الأموية، رغم أن سوريا مرت عليها حضارات كثيرة قبل الأمويين وبعدهم. لكن لا بد من هذا الاستقطاب؛ فهو من أهم ركائز الحشد والتجييش والتأثير في الجمهور.
اهتم الكثير من صناع المحتوى بالشأن السوري فجأةً، فتحولت حساباتهم إلى منصات إخبارية، تنشر أخباراً مضللة عن السجون وتقدّم الثوار أثناء معركة ردع العدوان، وتتداول أي خبر قد يكون سبقاً صحفياً دون التحقق من صحته.
انتشر الكثير من الأخبار الكاذبة عن السجون والمعتقلين، كما تم تداول صور الشهداء والمعتقلين دون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه الضحايا وذويهم، وانتهاك خصوصيتهم. فتحولت قصة أو منشور إنستغرام وتغريدة إكس من صوت واعٍ لنشر الحقيقة والتعاطف إلى هوس المشاهدات وزيادة الأرقام.
في الحقيقة، استمرت هذه الفئة من المؤثرين في استغلال أي حدث في سوريا وتحويله إلى ترند؛ مثل الاشتباكات بين الدولة وفصائل مسلحة أو فلول النظام، وقصص الاختطاف والحرائق التي انتشرت مؤخراً في اللاذقية وطرطوس. شاهدنا بعض المؤثرين يلتقطون الصور أثناء الحريق ويصنعون الأفلام للمحتوى فقط لا أكثر، حتى تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق الذي وقع في 22 حزيران/ يونيو 2025، كان لا بد أن يتحول إلى ترند وسبق صحفي، مع انتشار روايات مضللة عن التفجير ونقل صور مجتزأة من مقابلات وتصريحات.
لا نجزم أن هذه الممارسات تهدف إلى الأذى بشكل مقصود وزرع التفرقة والطائفية؛ فقد تكون قلة الوعي بمسؤولية الكلمة وسباق الشهرة والمال سبباً في إغفالهم أخلاقيات صناعة المحتوى والتعامل مع المتلقي ومنصات التواصل الاجتماعي.
لا تخلو ساحة صناعة المحتوى من نماذج أخلاقية بالفعل، تعمل على رفع الوعي وتمكين الشباب وزيادة ثقافتهم وتعليمهم، لكنها تبقى أصواتاً قليلة، وفي بعض الأحيان تتعرض للتخوين لما تدلي به من خطابات معتدلة خالية من الاستقطاب؛ فنسبة كبيرة من رواد مواقع التواصل تزعجهم الخطابات المعتدلة والصوت الناقد أو التفكير النقدي، الذي يصدر بعيداً عن الانتماءات الضيقة. اعتادت هذه النسبة على الخطابات المشحونة عاطفياً والشعبوية المنحازة انحيازاً كبيراً غير مبرر.
يقول المؤثر وصانع المحتوى بشر نجار إنه بدأ صناعة المحتوى بهدف رفع الوعي والثقافة والارتقاء في المجتمع العربي والسوري خصوصاً مؤمناً بأن التعليم والثقافة أساس بناء المجتمعات وتطورها، ويخبرنا عن ردود الفعل التي يواجهها أثناء تطرقه لمواضيع هامة مثل الحقوق والواجبات والمواطنة وانتقاد بعض القرارات؛ إذ تجعل وسائل التواصل المهاترات سهلة جداً، كما أن نسبة من السوريين لا يبدون لطفاء كما هم في الواقع ولا يتفاعلون مقارنة بالجنسيات الأخرى. والكثير من المتلقين تسيرهم حالة الغضب فتبدأ المشاحنات وحملات التخوين والتهم الجاهزة، ويضيف: “لا شك أن للقبضة الأمنية في ظل حكم الأسدين دوراً كبيراً، فلا حرية رأي وتعبير مسموح بهما ولا مساحة للحوار وفرصة لاكتشاف الآخر، فتغلب على البعض الخطابات العاطفية والشعبوية المنحازة انحيازاً غير مبرر”.
إعادة الإعمار لا تعني فقط العمران والخدمات والبنى التحتية، بل تتوسع لتشمل إعادة إعمار الأفكار والقوانين والأخلاق حتى، وبما أن أقل المؤثرين يمتلكون على حساباتهم آلاف المتابعين والآخرون ملايينهم، فنلاحظ أهمية خطاباتهم ودورها. لكن كيف نبني خطابات معتدلة؟ كيف نحول الأرقام التي تتابع المشاهير إلى أشخاص بعيدين عن التجييش، أفكارهم راسخة وغير مسيسة وفاعلة في المجتمع؟
يضيف بشر نجار أيضاً أن المحتوى السطحي أو المقلد يُنسى برأيه ولا يدوم طويلاً، ويقول: “برأيي كمتابع لا كصانع محتوى، على صناع المحتوى الابتعاد عن الأنانية، وألا يكون الهدف الأساسي إثارة الجدل وتحقيق الوصول على حساب السلم الأهلي أو تحويل المآسي والكوارث إلى ترند دون التوعية عن المواضيع التي يصنعون محتوىً منها. ألا يتأرجح المحتوى بين تمجيد مبالغ فيه أو تحريض شعبوي”.
من المهم إدراك مسؤولية هذه الأرقام والمتلقين وتقديرهم عبر تقديم مواد ومحتوى يحترم عقل المتلقي ويضيف له، مثل تبسيط التاريخ والعلوم الإنسانية والتحليل السياسي والاجتماعي وتشجيع التفكير النقدي. وهذا يؤدي بالضرورة إلى خلق مجتمع واعٍ يعي حقوقه وواجباته، ويكون قادراً على مناقشة الأفكار وتقبل المختلف. والخطوة الأهم مجتمع متماسك ومترابط لا تسيره الخطابات الشعبوية.
ودورنا نحن كمتلقين ومتلقيات أن نراقب المحتوى الذي نتابعه: ماذا يضيف لنا وبما يؤثر؟ أن نلاحظ الكلمات المدسوسة بطريقة غير مباشرة، فخلف الشاشات كل ما يُقال مقصود، وكل جملة تتعرض للتقييم والتعديل عشرات المرات قبل وصولها إلى مسامعنا. ما يعني أن الخطابات التحريضية مقصود إقحامها والحملات التسويقية واستغلال الأزمات لدى بعض صناع المحتوى مقصود أيضاً.
ويوصي المؤثر بشر نجار بأهمية الابتعاد عن الصور النمطية وإطلاق الأحكام والتصنيفات، وضرورة التأكد من المعلومات قبل تداولها بالقراءة والبحث المستمرين، ومحاولة فهم الآخرين وتقبل الاختلاف وتخفيف الغضب والاحتقان بيننا، ودورنا الأساسي والأهم أن نفرض نحن على صانع المحتوى ما يقدم من خلال ما ننتقي ونتابع، لا أن نكون مجرد متلقين تُفرض علينا محتويات تحريضية أو استقطابية أو تافهة في أبسط الأحوال.








