تأملات
بينما أقرأ سورة البقرة، توقفتُ عند هذه الآية ولم يستطع قلبي أن يتجاوزها، وظللت أكررُ (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) فعدتُ لأقرأ الآية كاملةً أكثرَ من مرّةٍ عسى أن يفتحَ الله عز وجل لي بالفهم فيها
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ).
آيةٌ عجيبةٌ جدا
الله عز وجل يصنّف بها الناس إلى صنفين:
– الصنف الأول / (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)
بمعنى أن تلغي فكرة فردانية الله الواحد الأحد مالك الملك المهيمن، وتبدأ تعطي ( ندّه الذي رفعته إلى مقام الألوهية) صفات الله عزّوجلّ، وتقدّس هذا (الندّ) الذي اتخذته بالاتباع الأعمى ورفعته بهواك المنحرف إلى قدسية الله عزّوجلّ، ( ويحبونهم كحب الله) ليس المعنى هنا الحبّ العاطفيّ، بل أن يكون خوفكَ من هذا الندّ لله الذي اتبعته مثل كأنّكَ تخاف من الله وتسعى في إرضائه، لقد نسف الله هذا الصنف في معركة بدر إذ حطم فيها كل مفاهيم القوة الظاهرية، وكل مآلات الشرك في المندادة، فخرج المسلمون بفئة قليلة (313) أمام (1000 ) من المشركين، ولكن في قلوب المسلمين يكمن سرّ النصر وهو (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أي قوتكم هي لله ومن الله،
وبناءً على أساس (أن تجعل لله ندّاً) فأنت ستدخل في دائرة تمجيد من لا يستحق أن يُمجَد، وقد تُهلّل لمشهد لا يستحق التهليل، وتضع السجادة الحمراء ليسير عليها شخص لا يرتقي لها، وتقبّل يد ظالم وتستلم لإملاءاته، لأنّك تقدّم مصلحتك معه على أن تنحاز للحق الذي تعلمه وإلى آخره
– الصنف الثاني/ (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ)
كيف؟ يعني أنا أعلم أنَّ هذا الشخص قوّتهُ ستضرني، لكنني أعلم أنه ظالم، وأنَّ قوّته هذه مهما بلَغَتْ فهيَ لا تساوي شيئا أمام قوّةِ الله، فأقدّمُ توكّلي على الله الباقي ومحبتي له وثقتي به، على خوفي من قوة ذلك العبد الفاني، فأتحقق هنا بمقام ( الأشد حبا لله )، وهذا مقام عجيب وراقٍ لا يتذوقه إلا أصحاب العرفان الذين يلوكون الجمر وهم لا يقولون إلا ( الله )لأنهم يعرفون الله حق معرفته.
ومن هنا تستطيع أن تعرف أين تقفُ أنت وما هو تصنيفك، هل تُقدَّم الله على ( ندّ الله ) ، فتكون من الذين آمنوا أشدّ حبّاً لله، أم تُقدِّم ( ندّ الله) على الله، فتكون من الذين اتخذوا من دون الله أنداداً.
(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)
(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) نلاحظ بأنّها سُبِقَتْ بفعلين للرؤية ( يرى ) و ( يرون ) أي: إنَّ العذابَ مشهودٌ يا أمة لا إله إلا الله، وهنالك شيء عجيب أنّ الظالمين يرون عذابهم ويشهدون عليه، يعني أن تتعذب وتتفرج على عذابك، عذابان في مشهدٍ واحد، فماهية الرؤية بطبيعة الحال تحتاج وقتاً وتركيزاً، فالإبصار مرحلة أوسع من السمع، فأن تحسّ، ليس كأنْ تسمع، وأن تسمع ليس كأنْ ترى، وبذلك تجمعُ لنا الرؤية كل ما سبق ( الإحساس والسمع والبصر)، مشهدية مكتملة من العذاب، تتحوّلُ من الّلا مرئي إلى المرئي وذلك مستوىً عظيم وقاسٍ.
يعني مثل أن تحسّ الألم في روحك، ثم تصبح ترى الألم بعيونك، ولأُقَرِّبَ الصورة أُشَبِّهُ الأمر بشخصٍ مصابٍ بالهلع يجري ويقول: ( لقد رأيتُ الموت بأم عيوني ) هذا مستوى أعلى من رجلٍ آخر يقول: (أحسستُ بالموت)
وإذا أشهدَ الله ظالماً على عذابه فذلك العذاب يكونُ مكتملاً (ظاهرياً وباطنياً)، شهودٌ مكتمل الأركان، سيشهده الظالمُ روحياً وجسدياً، وأيضاً بما لا نعلم عن حقيقة كنه عذاب الله وخصوصيته، والتي هي في علم الله وحده، والإشهادُ هنا ليقول للذين ظلموا ماذا ؟
(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) كيف؟
يعني قوّتكَ أيّها الظالمُ وكلَّ ما استندت عليه من مخططات وأسلحة ومكر وبلطجية ومناددة هي لي، وأنّك لا تملك شيئاً في حقيقة الأمر، وكلمة(جميعاً) هنا، وليست جميعها، بمعنى أنّ قوة الله مجتمعة بما ظهر وما بطن من كل قوة أدركناها ولم ندركها، وكل بأس وكل قدرة صغيرة ام كبيرة، هي في الحقيقة مختصة بالله وحده.
يعني كلُّ قوةٍ مهما عَظُمَتْ وكلُّ امبراطورية مهما بَلَغَتْ، وكلُّ زعيمٍ مهما استبدّ، كلُّ ذلك هو لله عزوجل وتحت أمره ويُلحق الله هذا التوصيف العظيم ب (وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) يعني إنَّ شدة عذاب الله على قَدْرِ تلك القوة المجتمعة في كل العوالم التي ندركها والتي لا ندركها، فهل نستطيع أن نتخيل ماهية عذابه سبحانه وتعالى؟
فبئساً لكلِّ مناددٍ يمشي بقدمَيّ تكبّرهِ وغطرستهِ نحو شديد العذاب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته وسلم.