يكبر الكثير من أطفال سوريا في بلاد لا تشبه وطنهم الأم إما من ناحية اللغة أو العادات والتقاليد المجتمعية، ولا تربطهم بسوريا سوى صور على الشاشات ومشاهد متناثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي أذهانهم تصبح سوريا مكاناً بعيداً غامضاً، أحياناً جميلاً وأحياناً أخرى مخيفاً، ويبقى الوطن الذي تخيّلوه ولم يعرفوه مختلفاً عمّا عرفه أهاليهم.
في هذا التقرير، نسلّط الضوء على مشكلة تخيل الوطن عن بعد لدى الأطفال والآباء الذين غابوا سنوات طويلة عن وطنهم إثر الغربة ودور العائلة بفهم أطفالهم حقيقة الوطن، وإحدى العائلات الذين تحدثت معها “سطور” يعيش طفلها في عالم من الصور المتخيلة عن سوريا، بعيداً عن الواقع الحقيقي، حيث تشكل القصص المتفرقة انطباعه الوحيد عن الوطن.
وفي المقابل، هناك أب آخر يسعى جاهداً للحفاظ على صورة وطنه كما يعرفها، مقدماً إياها لأطفاله بشكل واقعي ومتوازن معترفاً بالتغيرات والتحديات دون مبالغة أو إنكار، ومن خلال هذه التجارب، وبالاستعانة برؤية الاختصاصي النفسي الدكتور عمر النمر، نستكشف كيف تؤثر ذاكرة الأهل وتجاربهم على تصور الأطفال لوطنهم، ودور العائلة في بناء هوية وطنية متماسكة بين الحقيقة والخيال.
تكوين الصورة الذهنية
تتشكل صورة الوطن في ذهن الطفل من خلال التجارب اليومية، والأحاديث العائلية والبيئة الثقافية التي ينشأ فيها، وفي ظل الغربة، يغيب الاحتكاك المباشر مع المكان الحقيقي، فيحلّ الخيال محل الواقع، وتصبح سوريا بالنسبة لكثير من الأطفال مجرّد مزيج من صور وذكريات منقولة إليهم عبر الأهل ووسائل الإعلام.
في هذا السياق، يصبح تكوين الصورة الذهنية عن الوطن دوراً أساسياً في بناء الهوية والانتماء، وهو ما تساهم فيه العائلة بشكل محوري.
وعن الصورة الذهنية، قال الاختصاصي النفسي الدكتور عمر النمر لموقع سطور، إنها تتكوّن بالمعايشة المباشرة، وما نحياه ونلمسه أعمق تأثيراً مما نسمعه أو نقرأ عنه وغياب التواصل مع الوطن يحرم الأطفال من تكوين صورة واضحة عنه، ما يؤثر على هويتهم الوطنية.
وأضاف النمر أن الأبناء الذين نشؤوا في الاغتراب دون ذاكرة مبكرة للوطن غالباً ما يفتقرون إلى الانتماء الحقيقي، لأنهم لا يمتلكون تجربة حقيقية تعرّفهم عليه، وهنا للأهل دور محوري في تعزيز العلاقة العاطفية والوجدانية بين الطفل ووطنه الأصلي. فصورة الوطن التي يحملها الأهل، وانطباعهم عنه، ينتقلان تلقائياً إلى الأبناء.
ونقل محمد والد الطفلة شهد البالغة من العمر 9 أعوام والتي ولدت في مدينة هاتاي عام 2016 لموقع “سطور” محاولات العائلة شرح معلومات تتعلق بسوريا لتفهم ما يعنيه الوطن وتعزيز العلاقة بينهما، ومن محاولاتهم كان الحديث عن أسماء المدن والقرى وتاريخ بعضها وأهمية تاريخ سوريا على مستوى الوطن العربي، إضافة للبدء قبل نحو عامين بالشرح لها عن الثورة السورية وكيف انطلقت والأسباب التي أجبرتهم على الخروج من سوريا.
وأضاف الشاب، إن طفلته لم تزر سوريا على الإطلاق، وكل ما تعرفه هو فقط ما تشاهده على الإنترنت ونشرحه لها، وكنا نحاول قدر المستطاع جعلها أقرب إلى المجتمع السوري وعادات وتقاليد سوريا ولكن لم ننجح كثيراً بالبداية وكان الأمر مرهقاً، ولكن من بعد تحرير سوريا شاهدت لهفتها تتصاعد، على نحو لم يكن موجوداً قبل أشهر وأتوقع أن السبب ازدياد الحديث عن البلد وأخبارها ما أدى لرغبتها بتوجيه الأسئلة ومعرفة تفاصيل كثيرة مما يدل على رغبتها في المعرفة.
ذاكرة العائلة تساهم في نقل الصورة الواقعية
الأطفال الذين ينشؤون في بيئة تُعلي من قيمة الوطن وتستحضر ذكرياته، غالباً ما يطوّرون شعوراً وطنياً قوياً حتى إن لم يعيشوا فيه، لذا فإن نقل الذكريات والمشاعر من الأهل إلى الأبناء يساهم بوضوح في بناء الهوية والانتماء للوطن.
وفي هذا الصدد، قال الاختصاصي النفسي عمر النمر لـ “سطور” إنه من المهم أن يقدّم الأهل لأطفالهم صورة واقعية عن الوطن بأسلوب قريب من الطفل ودون مثالية مفرطة، فإن تصوير الوطن كجنة قد يصدم الطفل لاحقاً عندما يزور البلاد ويكتشف التباين بين الواقع وما سمعه، ما يؤدي إلى شعور بالازدواجية أو خيبة أمل.
وخلال حديث “سطور” مع أمجد ابن مدينة دوما بالغوطة الشرقية، أوضح أنه ما زال متأثراً بما عاشه خلال حصار الغوطة الشرقية من جوع وعطش وفقر وقصف وغيرها من التفاصيل المؤلمة، وعندما يحاول التحدث مع طفليه البالغين 7 و6 أعوام يجد نفسه تلقائياً يتكلم عن صعوبات الحصار وما عاشه مع أصدقائه والنجاة من الموت مرتين وغيرها من القصص المؤلمة.
وتابع أمجد، أنه قبل التحرير لم يكن يتخيل أن تكون سوريا قابلة للعيش وكان ينقل هذه المشاعر لطفليه، ما تسبب بتخيلهما أن الوطن لا يوجد فيه إلا الذكريات المؤلمة متأثرين بما نقله لهما طيلة الفترة السابقة، وعند الحديث عن قرار العودة لسوريا لاحظ نفورهما من البلد خوفاً من خوض التجربة التي عاشها والدهما.
وأشار النمر خلال حديثه إلى أن تجربة الأهل الشخصية مع سوريا، سواء كانت إيجابية أو سلبية، تؤثر بشكل مباشر في تكوين صورة الوطن لدى الطفل، نقل الذكريات السلبية يخلق نفوراً، بينما الذكريات الجميلة تزرع الحنين والانتماء.
بين الخيال والواقع، تبقى صورة الوطن في عيون الأطفال مرآة لذاكرة الأهل، وفي الغربة لا يُولد الانتماء تلقائياً، بل يُزرع برفق عبر الحكايات والمشاعر التي ينقلها الأهل فالوطن الذي لم يُعاش يُحب إذا نُقل بصدق وتوازن.