مجتمع

سوريا الصغيرة بين رغبة البقاء وتشتت الهوية

يونيو 15, 2025

سوريا الصغيرة بين رغبة البقاء وتشتت الهوية

– هلا الموسى


كُل شَيءٍ محضُ صُدفَة

غيرَ أنَّ الأقدار لها ترتيبٌ آخر 

بينَ شجرتي زيتون وحفنة أحلام، تخرج الحياة على خجل وحياء لتعبر شوارعَ المدينة المُثقلة بحكايا أهلها المغمسة بالدماء، بائع الكعك ينادي، طفلٌ يهرول إلى مدرسته، رجلٌ مسن يحمل أرغفة الخبز إلى عائلته، شمس أكتوبر تتسلل إلى نوافذ البيوت، أمنيات تتفتق على شرفات المنازل وفنجان قهوة يجمعُ جارتين لتكتملَ آخر الأسرار والخبايا . . .مابينَ موتٍ وحياة يشقُ الحلم طريق نجاة لكل القصص التي بقيت دونَ خاتمة تليقُ بها، فتتدلى عرائش الياسمين ليستتر خلفها ما بقي من فُتات أحلام، يُقال إن للمدن رموزاً تميزها لكن هنا تُكسر القاعدة لتبقى مدينة الأضداد حبيسة كل شيء وضده، فكيف لمدينة مثلها استطاعت أن تفيضَ بكل هذا القدر، لم يكن الوصول إلى إدلب حدثاً عابراً، هُنا تبدأ حكاية وتنتهي أخرى.


هُنا في سورية الصغيّرة “المحرر” وهذه الكلمة تجمعُ تحت جناحيها إدلب العزّ بهيبة ساعتها مروراً بريفها العريق وريف حلب الغربي ومناطق غصن الزيتون، حدث لم يحدث على مرّ الأزمان، أن تجتمع لسنوات طويلة في بقعة جغرافية صغيرة حدودها 4 معابر برية لا يتخطاها إلا ذو حظٍ عظيم، أكثر من 21 محافظة و30 جنسيّة عربية وأجنبية لأجلِ قضيّة واحدة راسخة وقدر الحصار المشترك الممزوج بالإبادات الجماعيّة وصواريخ الموت والعدو المشترك ومرارة التهجير وعبادة الله وحده رغمَ الاختلاف والخلافات.


 

من أتاها صغيراً خرجَ منها اليوم شاباً مع طفله، من ولد فيها يخطو أولى خطواته خريجاً على مقاعد جامعاتها، أو ربمّا على خطوط الجبهات صنديداً صنعته أيامها المريرة وحلاوتها.


لنكتشف بعد أن شرعت أمامنا الأبواب أن ما جمعنا أكبر بكثير مما فرقنا، وأننا عائلة واحدة في بلد صغير نثق ببعضنا نحفظ ملامح الحياة التي جمعتنا ورسمتنا، لا نخوة بعد نخوتنا إن مسَّ سوء صغيراً أو كبيراً منا.


كيفَ لا وهذه الأرض الأولى وماعرفوا في حياتهم داراً غيرها، كل من عاش في إدلب وولد فيها هو ابن لها ومن حقه أن يكون فخوراً لانتمائه لها. 


هل ينسى الإنسان عقداً من حياتهِ صنعَ ما هو عليه اليوم؟


يقال إن للمدن أرواح منها ما هو مألوف للقلب وآخر لا يستريح لها المرء، لكن الأمر في هذه البقعة الجغرافية مغاير تماماً، كانت المدينة تختنق صباحاً برائحة الموت ودخان الرصاص، تخرج ليلاً إلى أرصفتها لتستنشق عبق هوائها فيكون بمثابة علاج يغسل منك ما مضى.



صراع الهوية 


لكننا اليوم أمام أجيال في بلدان الخارج والمنفى والمناطق التّي كانت محررة سابقاً أمام ضياع في الهوية والتشتت مع رغبة في البقاء حيث التجاوز ليس سهلاً إنما يُثقل القلب ويهلك الروح، حينما تنزل أرضك لكن لا تعرف كيفَ تتخطى شارعاً من شوارعها، تتهافت الوجوه بغرابة وتستنكر كل الأحاديث والملامح العابرة، تتفقدُ باب المنزل بقبضتهِ المهترئة وتبحث دون جدوى عن مفتاح العودة الذي طالما حملته جدتك في عنقها، أنت الذي كنت تمازحها “يمّا نحن صرنا التغريبة الفلسطينية”، تتغير الثقافات والاهتمامات بكل مجريات الحياة، فيأخذك الحنين الجارف إلى حيث أقمت طوال سنوات الثورة، ورغم ألمها وجمالها يبدو أن التَّجاوز هُنا عصيٌّ على الذاكرة، في كل مرّة يعودون فيها إلى هنا حيث شوارع إدلب وساعتها التي بقيت كل الحكايا عالقة فيها بين فواصل الزمن، يغرق الإنسان بمزيج متناقض مابين حدود شرعت له على عجلة بدماء الشهداء واحتفظت بأراضي الأجداد وبين حياة آخرى صَنعت تفاصيل ما نحن عليه اليوم كان من المرجح أن نبقى بها إلى أن يَشاء الله، هذا التخبط بالانتماء والانتقال إلى حياة أخرى مغايرة تماماً بشكل مفاجئ.



أجيال بأكملها تُعاني منهُ، لو سألت أي واحد منهم عن أكثر ما أثقل قلبه بعد التحرير، سيسرد لك الشتات ما بين حلم العودة وغصة ثقل الوداع، الاستمرار أو العودة للبدء من الصفر أو ربما أقل منه، القلبُ يرتبط ارتباطاً وثيقاً أينّما نشأ وكبر، هذا الشرخ العميق بالانتماء إحدى المساوئ التّي تركها الأسد خلفهُ لكن هيهات أن يحققها، الأرضُ لنا نحنُ أهلها حقٌّ علينا العودة إلى الدّيار فاتحين معززين، وهذا ما أكرمنا الله بهِ بعد 15 عاماً، وكل مكانِ فتحَ ذراعيهِ لنا يبقى بلداً ثانياً نعودُ إليه كل حين بذاتِ اللهفة للأصدقاء ولكل غصن زيتون شهد على حكاية من بقوا هُنا، فالإنسان لا يتجرد من أصلهِ والأصيل لا ينكر الفَضل.

شارك