سياسة
في تطور غير مسبوق، شنت إسرائيل سلسلة من الضربات الجوية استهدفت منشآت نووية ومقار قيادية للحرس الثوري الإيراني داخل العمق الاستراتيجي لإيران، تبعتها رشقات صاروخية سقطت داخل الأراضي الإسرائيلية. هذه الجولة الجديدة من التصعيد لا يمكن فصلها عن المتغيرات المتسارعة في المنطقة، وفي مقدمتها سقوط نظام الأسد قبل 6 أشهر، والذي شكّل ضربة قاصمة للنفوذ الإيراني في سوريا، وربما في لبنان أيضاً.
ما نشهده اليوم يُشير إلى تفكك تدريجي للمنظومة الإيرانية الممتدة من بيروت إلى بغداد، التي لطالما اعتمدت على شبكة من الحلفاء والوكلاء بدلاً من المواجهة المباشرة.
لم تكن سوريا مجرد حليف بالنسبة لطهران، بل كانت تمثّل ممراً برياً وساحة متقدمة في معادلة الصراع الإقليمي. وتشابه التحولات الجارية اليوم، من حيث حجمها ودلالتها، ما حدث للاتحاد السوفييتي في أواخر الثمانينيات حين بدأ حلفاؤه في أوروبا الشرقية بالانهيار، ما قاد إلى انكفاء داخلي شامل، وفي حين أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة تبدو عسكرية في ظاهرها، إلا أنها تحمل دلالات سياسية وأمنية عميقة، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من إعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط، وفي خضم هذا التغير، تُطرح سوريا الجديدة قوة ناشئة تواجه تحديات ملء الفراغ واحتواء ارتدادات المرحلة المقبلة.
الوجود الإيراني في سوريا لم يكن ظرفياً، بل كان بنية مؤسسية معقدة جمعت بين الحضور العسكري المباشر، والسيطرة الاقتصادية، والتغلغل الاجتماعي في مفاصل الدولة والمجتمع.
عبر هذا النموذج، تمكنت طهران من بسط نفوذها على مناطق استراتيجية مثل حلب وريفها الجنوبي، ودرعا والقنيطرة، وحمص المحاذية للبنان، وصولاً إلى العاصمة دمشق وضواحيها. واستندت في تمددها إلى ممر بري يمر عبر دير الزور والميادين والبوكمال، الذي مثّل شريان الربط بين مليشياتها في العراق وذراعها الأقوى “حزب الله” في لبنان، مما أتاح لها إقامة حزام نفوذ متصل ضمن ما يُعرف بـ”الهلال الشيعي”.
لكن بعد سقوط نظام الأسد، الذي كان بمثابة الغطاء السياسي والأمني الأهم لنفوذها، بدأت هذه المنظومة بالانهيار المتسارع.
فشرق سوريا شهد تشديداً للرقابة الحكومية على المعابر غير الرسمية التي كانت تخضع لإدارة إيرانية، رغم محاولات متكررة لإعادة التموضع عبر دعم شخصيات عشائرية ومليشيات محلية متصلة بـ”الفوج 47″ و”حزب الله العراقي”.
وفي الجنوب، تحاول طهران الاستفادة من الفوضى الأمنية عبر شبكات تهريب المخدرات وإنشاء واجهات محلية شبيهة بتجربة “حزب الله”، لكنها تواجه رفضاً مجتمعياً واسعاً وتوجساً إقليمياً متزايداً.
أما في الساحل وريف حمص، فقد أدت الحملات الأمنية إلى مصادرة شحنات أسلحة كانت متجهة إلى “حزب الله”، في مؤشر على تراجع قدرة إيران على دعم حلفائها. كما فشلت فلول النظام السابق، المدعومة إيرانياً، في زعزعة الاستقرار، في ظل استعادة الحكومة الجديدة السيطرة على هذه المناطق وتفكيك شبكات النفوذ التي أرستها طهران على مدى عقود.
تتحرك الحكومة السورية الجديدة ضمن رؤية استراتيجية متعددة الأبعاد لمواجهة الإرث الإيراني. أمنياً، أطلقت الحكومة حملات استباقية تهدف إلى تفكيك البنى المليشياوية المرتبطة بطهران، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية تطهيراً لها من الاختراقات التي سمحت بترسيخ النفوذ الإيراني.
وتشمل هذه الجهود أيضاً تفكيك شبكات المصالح الاقتصادية وطرق التهريب التي كانت تمثّل عصب الحضور الإيراني في دير الزور والساحل وجنوب سوريا.
سياسياً، اختارت الحكومة خطاباً واضحاً ينأى بسوريا عن المحاور الإقليمية، ويعيد تموضعها كشريك متوازن مع الدول العربية والغربية. أما دبلوماسياً، فهي تعمل على تحييد الساحة السورية من الاستقطاب الإقليمي والدولي، مع الحفاظ على علاقات مفتوحة مع الجميع باستثناء طهران، التي بات يُنظر إليها كمصدر تهديد مباشر للاستقرار. وترتكز هذه المقاربة على إدراك أن استمرار النفوذ الإيراني لا يعرقل فقط إعادة الإعمار، بل يضعف فرص استعادة سوريا لدورها الطبيعي في محيطها.
لطالما اعتمدت إيران على شبكة من الوكلاء المسلحين لتوسيع نفوذها من دون الدخول في صراعات مباشرة. أذرعها في لبنان واليمن وسوريا والعراق كانت أدوات فعالة لكسب أوراق تفاوضية، إلا أن الوضع اليوم بات مختلفاً؛ فالضربات الإسرائيلية المتصاعدة والتوتر مع واشنطن، ترافقا مع امتناع هذه الأذرع عن التحرك لنصرة طهران نتيجة ظروفها الموضوعية بعد أشهر من الحرب والقصف في اليمن ولبنان وشلل الوكلاء في العراق، ما أجبر طهران على الانخراط المباشر في المواجهة للمرة الأولى.
هذا التحول يعكس تآكل أدوات إيران التقليدية، وتزايد عزلتها نتيجة الضغوط المتراكمة وتراجع التأييد الشعبي. عجز “حزب الله” عن الانخراط الكامل، وتردد الفصائل العراقية، وصمت الحوثي، كلها مؤشرات على تفكك منظومة الحرب بالوكالة. وقد أثّر هذا التراجع فعلياً على قدرات إيران اللوجستية، حيث تقلصت عمليات التمويل والتسليح لمليشياتها، ما يُنذر بانحسار تدريجي لمحور “المقاومة”.
سوريا تبدو الساحة الأكثر عرضة لتداعيات مباشرة، سواء من خلال محاولات فوضوية من القوى الحليفة لطهران، أو من خلال احتمال عودة تنظيم “داعش” إلى البادية. وقد يشهد المشهد السوري أيضاً تعزيزاً للدور الروسي على حساب الإيراني. بالمقابل، تملك الحكومة السورية الجديدة فرصة لترسيخ استقلاليتها، والانفتاح على المحيط العربي والدولي ضمن توازنات جديدة.
مع انحسار النفوذ الإيراني، يطرح تساؤل جوهري: من سيملأ هذا الفراغ؟ ثمة أطراف عديدة، أبرزها روسيا، التي تسعى إلى ترسيخ وجودها كضامن أمني بديل، عبر تعزيز وجودها العسكري في مناطق مثل القامشلي وحميميم، وبسط نفوذها داخل الأجهزة الأمنية. في المقابل، قد تجد تنظيمات متطرفة مثل “داعش” فرصة لإعادة الانتشار في مناطق رخوة كالبادية ومحيط دير الزور، مستفيدة من غياب التنسيق وتراجع اليقظة الأمنية.
كما أن بعض المليشيات العابرة للحدود قد تحاول استغلال هذا الفراغ لإعادة التموضع، وهو ما يُهدد الاستقرار ما لم تتدخل الحكومة الجديدة بحزم لإدارة المشهد. فإما أن تكون سوريا على أعتاب فوضى جديدة، أو أنها بصدد مرحلة جديدة من إعادة بناء التوازنات الداخلية والإقليمية.
أمام هذا التراجع الإيراني، تتبلور 3 سيناريوهات رئيسية. الأول والأكثر ترجيحاً هو الانكفاء المنظم، حيث قد تنسحب إيران تدريجياً من المشهد العسكري، مع الاحتفاظ بنفوذ خفي في المجالات الاقتصادية والاستخباراتية. هذا السيناريو يعكس إدراكاً متأخراً لتغير التوازنات وتقلص الحاضنة الشعبية.
السيناريو الثاني أكثر خطورة، ويتمثل بمحاولة إشعال اضطرابات داخلية عبر فلول النظام السابق أو مليشيات مرتبطة بطهران، في محاولة لعرقلة تثبيت النظام الجديد. إلا أن فرص نجاح هذا السيناريو تبقى محدودة بسبب ضعف القاعدة الشعبية له واستعداد القوى الإقليمية للتصدي له.
أما السيناريو الثالث، فهو التهديد الذي يشكله الفراغ الأمني، والذي قد تستغله “داعش” لإعادة التمدد، ما يهدد ليس فقط سوريا، بل الاستقرار الإقليمي ككل.
لم يكن سقوط الأسد ولا الضربات الإسرائيلية مجرد أحداث أمنية عابرة، بل محطات فاصلة أنهت مرحلة من الهيمنة الإقليمية. وبينما تحاول إيران الحفاظ على ما تبقى من نفوذها، تقف سوريا على عتبة مرحلة جديدة قد تعيد لها دورها ومكانتها.
ما تعيشه إيران اليوم هو نتيجة لتآكل تدريجي في أدواتها الإقليمية، وعجزها عن إدارة حروبها بالوكالة كما اعتادت. وكما قال ابن خلدون: “الملك إذا ذهب عن بعض أطرافه، ضعف ساعده كله، وإذا استُؤصلت منه شعبة واحدة، كانت القاضية عليه”، وهذا ما يحدث لطهران الآن، بعد أن خسرت أطرافها الممتدة من الضاحية الجنوبية إلى دير الزور، ومن بغداد إلى غزة واليمن.
بالمقابل، تجد سوريا نفسها أمام فرصة تاريخية لتأسيس دولة جديدة، لا تستند إلى دعم خارجي ولا ترث أخطاء الماضي. لكن هذه الفرصة لا تُمنح، بل تُنتزع بإرادة وطنية تعرف أن الانتقال من الفوضى إلى الدولة يتطلب شجاعة وبصيرة. وكما قال الكواكبي: “إذا نزلت بك نازلة فاجعل لها همة تنهض بها، فإنها إن لم تنهض بك قتلتك.”