مشاركات سوريا

الدراما السورية بعد 2025: هل نطوي صفحة البروباغندا؟

يونيو 9, 2025

الدراما السورية بعد 2025: هل نطوي صفحة البروباغندا؟

بعد أكثر من نصف قرن من القمع والتزييف، سقط النظام الأسدي، لم يكن السقوط سياسياً وعسكرياً، بل ثقافياً وإعلامياً وأسطورة زرعتها المخابرات في وجدان الناس لعقود، وبين ركام مؤسسات الرقابة والدعاية، بدأت تتكشّف الوجوه التي خدمته، والأدوات التي شكّلت ذاكرة مزيفة لأجيال كاملة، وعلى رأسها: الدراما السورية.



لم تكن الشاشة السورية حيادية يوماً، بل كانت جزءاً من آل


 بروباغندا ممنهجة، سخّرت الفن لتجميل الاستبداد وتطبيع القمع وتدجين الوعي الجمعي، فبينما كانت المعتقلات تمتلئ بأصحاب الرأي، كانت المسلسلات تُنتج بميزانيات ضخمة لترويج “الاستقرار” وتمجيد “هيبة الدولة” وتصوير الشعب قاصراً يحتاج إلى يدٍ أمنية تحميه من نفسه، وحين اندلعت الثورة السورية عام 2011، لم تكتفِ الدراما بالصمت، بل تواطأت، فأعمالٌ كاملة كُتبت لتشويه المتظاهر، وتبرير القتل، وإعادة قولبة الحقيقة بما يخدم السردية الأمنية، بعض الفنانين باعوا صوتهم، وبعض الكتّاب ساوموا على دم الشعب السوري.



لكنّ الزمن تغيّر، فبسقوط نظام الأسد البائد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، انفتحت نافذة نادرة في تاريخ سوريا: لحظة قد تتيح للدراما أن تتحرر من قبضة الجلاد، وتعيد اكتشاف دورها كضمير حيّ، لا كناطق باسم السلطة، فهل يمكن للفن الذي خان الثورة أن يصبح وسيلتها للشفاء؟ وهل نشهد دراما سورية جديدة، تُنصف التاريخ، وتحاكي الواقع، وتروي حكاية السوريين من داخل المخيّم، لا من خلف الزجاج الملوّن؟



دراما ما قبل الثورة: فن السلطة لا صوت الشعب


قبل عام 2011، كانت الدراما السورية إحدى أهم أدوات السلطة في صناعة الواقع وتوجيه الوعي الجماعي، حيث صُنعت لتكون مرآة مكسورة تعكس صورة مزيفة عن المجتمع والسياسة، فهي لم تكن مجرد وسيلة للترفيه، بل كانت مسرحاً لتنفيذ استراتيجية مدروسة تعتمد على سيطرة الأفكار عبر سرديات مُنسّقة بعناية، فالسلطة استثمرت في إنتاج مسلسلات ضخمة تعزز من شرعيتها وتُبرز نفسها حامية الوطن والشعب، فمسلسل “الزير سالم”  الذي عُرض لأول مرة عام 2000 مثلاً، رغم أنه عمل تاريخي يعيد سرد ملحمة عربية، عكس توجهاً قومياً رسمياً يهدف إلى بناء هوية وطنية موحدة تحت ظل الدولة، بعيداً عن أي نقد للواقع السياسي الداخلي، كان التمثيل والإخراج يراعيان تثبيت مفهوم القيادة الواحدة ضرورة للمجتمع.



كما كان مسلسل صلاح الدين الأيوبي الذي عُرض عام 2001 لأول مرة مثالاً واضحاً على كيفية استخدام الدراما لتشكيل خطاب مقاوم يمتد إلى القضايا الخارجية، ويُعزز الوحدة الدينية والقومية، لكنه في الوقت ذاته يتجنب تناول القمع الداخلي أو سياسات النظام الاستبدادية، العمل كان بمثابة رسالة تطمين تبرز النظام حامياً للمقدسات، بينما تُغفل قضايا الحريات والمظالم الاجتماعية.



في الأعمال الاجتماعية مثل “مرايا” (تقديم ياسر العظمة)، كان النقد قائماً لكنه محدود بسقف معين، حيث انتُقدت بعض الظواهر السلبية كالبيروقراطية والفساد، لكن بحذر شديد، بحيث لا يكون أكثر من نقد سطحي لا يمس جوهر السلطة أو يتحدى أجهزتها الأمنية.



بهذا الشكل، تحولت الدراما السورية إلى آلة بروباغندا متقنة؛ تستميل الجمهور بخطابات تظهر النظام في صورة الحامي والمنقذ، وتقمع في الوقت ذاته أي صوت حر أو نقد جاد، هذه السيناريوهات الفنية شكلت جزءاً لا يتجزأ من منظومة السيطرة التي أجهضت أي محاولة لتغيير حقيقي.



بعد 2011: تغييب الثورة وتشويه الذاكرة


مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، شهد المشهد الدرامي تحوّلاً عميقاً، ليس فقط في المحتوى بل في الأهداف والسيطرة، لم يعد المشاهد السوري يجد في الدراما صورة واقعية تمثل آلامه ومعاناته وأحلامه، بل غابت الثورة عن المشهد أو ظهرت من خلال عدسة مشوهة تخدم روايات النظام البائد، فأول مظاهر هذا التعتيم كان اختفاء الثورة قضية إنسانية في الأعمال الدرامية الرسمية، فبدلاً من سرد قصص الأمل أو المقاومة، تحولت الثورة إلى “حرب أهلية” أو “إرهاب” في سياقات مكررة، لتبرير قمع الشعب وتفتيت المعارضة، وهذا التصوير المضلل لم يكن صدفة، بل جاء وفق خطة ممنهجة لتشويه الثورة وإعادة تأكيد شرعية النظام البائد في قمع ثورة الشعب أكثر فأكثر.



أما المحور الثاني، فهو إنتاجات ما يُسمى بـ”منحبكجية” أو الأعمال الفنية الموالية التي صُنعت خصيصاً لتعزيز الخطاب الرسمي ونشر بروباغندا النظام، وهذه الأعمال تحظى بدعم وتمويل مباشر من جهات أمنية وسياسية مرتبطة بالنظام، وتعمل على تكرار خطاب النظام دون رقيب، وتقديم أبطال مزيفين حماة للوطن، بينما تمسخ صورة الثورة وثوارها إلى أعداء وخونة، من ذلك، مسلسلات مثل “الولادة من الخاصرة” و”الاحتياط”، التي ركزت على تشويه صورة الثوار وإبراز الأجهزة الأمنية كمنقذة.



إحدى أبرز أدوات النظام في هذا السياق كانت التحكم الكامل بأدوات الإنتاج، حيث سيطرت أجهزة الأمن على كل مراحل العمل الدرامي، من كتابة النصوص مروراً باختيار الممثلين وحتى مواقع التصوير، هذه السيطرة مكنتها من حذف أي محتوى يُعتبر معارضاً أو يحكي قصصاً حقيقية عن الثورة والمعاناة، حتى المحاولات الفردية للإبداع داخل سوريا كثيراً ما قُمعت، وهُدد صُناعها بالاعتقال أو المنع من العمل.



ووفقاً لتقارير صحفية عالمية عديدة، استخدم نظام الأسد البائد وأجهزته الأمنية سياسة القمع التعسفي لبعض فناني الثورة بداية اندلاعها محاولاً اعتقالهم والتضييق عليهم، كالممثل محمد عمر أوسو وغيره، حيث استهدفت أجهزة النظام الكتاب والمخرجين الذين حاولوا تقديم رؤى مختلفة أو الانتقاد.



هل نحن على أبواب دراما جديدة بعد سقوط النظام؟


رغم تراكم الظلال الثقيلة التي ألقاها النظام الأسدي على الدراما السورية لعقود، شكّل سقوطه نقطة تحوّل تاريخية، ليس فقط على الصعيد السياسي، بل أيضاً في المجال الثقافي والإعلامي، ومع أفول خطاب البروباغندا القديم، بدأ يتسلل إلى المشهد سؤال جوهري: هل آن أوان ولادة دراما حقيقية تعبّر عن الشعب لا السلطة؟ دراما تنقل وجع السوريين لا خيال الأجهزة الأمنية؟


فمنذ عام 2011، تغيّر ميزان القوى بشكل جذري، وتبدّلت خارطة الوعي الشعبي، فجمهور الأمس الذي كان يُصفّق للدراما الرسمية، أصبح اليوم أكثر وعياً، وأقل قابلية لتلقّي الرواية الرسمية دون تمحيص، لأنّ جمهور الثورة ينتظر فناً يوازي تضحياته، ويحمل حقيقته إلى الشاشة دون مواربة.



رغم عدم استبدال البنية الإنتاجية القديمة بالكامل، بدأت الأرض تهتز تحت أقدامها، فكانت هناك محاولات فنية بدأت بالظهور من خارج “المركز” التقليدي، تحاول أن تفتح كوّة في الجدار، كمسلسل “ابتسم أيها الجنرال” (2023)، فهو مثال حيّ على تلك المحاولات، إذ تناول قصة أسرة حاكمة فاسدة بأسلوب جريء، وقد أثارت ردود فعل واسعة داخل سوريا وخارجها، وأحدثت خرقاً مهماً في جدار الصمت.



في ظل التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا، تبرز الحاجة الملحة لإعادة بناء المشهد الدرامي بما يعكس تطلعات الشعب ويُعبّر عن معاناته وآماله، فالدراما، كأداة فنية وثقافية، تمتلك القدرة على توثيق الأحداث ونقل التجارب الإنسانية بصدق وعمق.


قد تسقط الأنظمة بفعل الثورات أو الزمن، لكن البروباغندا الموروثة لا تموت بسهولة؛ فهي تتلوّن، تتخفّى، وتُعيد إنتاج نفسها في خطاب الفن والإعلام والثقافة، ولهذا فإن المعركة الحقيقية لا تنتهي بإسقاط النظام السياسي فقط، بل تمتد نحو تفكيك “النظام الثقافي” المتجذّر في أعماق الرقابة والخوف والتزوير والتلميع القسري للواقع، ما لم يُكسر هذا القيد الرمزي، فلن تولد دراما حرة تعبّر عن نبض الشارع وذاكرة الضحايا وأحلام الجيل الجديد.



الثورة، بطبيعتها، ليست مجرد صراع مسلح أو مطالب سياسية، بل معركة هوية وذاكرة وصوت، والكلمة الحرة، والصورة الصادقة، والحكاية التي تُروى من فم من عاشوها، هي أدوات أكثر فتكاً بالاستبداد من الرصاص.

شارك