آراء

تسامح لا يُهدر العدالة، وحقدٌ لا يُشوّه النّفس!

يونيو 3, 2025

تسامح لا يُهدر العدالة، وحقدٌ لا يُشوّه النّفس!

بجلطةٍ تبعتها ثلاث دعاماتٍ متفرّقات، ومعهم ضغطٌ وسكّر، وإشكلات أخرى، أرّخت أمي تاريخ ما جرى لي ومعي بصحّتها، مرضًا فآخر، وإصابةً فأخرى، وفي قارةٍ أخرى ترقد ليلى سويف في المشفى بحالٍ أخطر من إدراكها حتى من ذوي الاختصاص، إذ تقدّمُ عمرها مقابل حياة ابنها وحرّيته في مواجهةِ صلفٍ وغلٍّ سيُضربُ بهم المثل وضاعةً كما سيذكرون نضالها صمودًا وجلالاً، وقبل أيّام ودّع صديقي محمود أمّه التي أسقطها العياءُ مذ كان معتقلاً، وتراكم حتى لم يحتمل قلبها الحنون، فماتت كما مات أبوه مجلوطًا هو الآخر حزنًا على ابنه المخطوف والمعتقل لأنّه صحفيٌّ يمارس عمله بكلّ مهنيّة، لكنّ الدولة قررت معاقبةَ البلد الذي تتبعه مؤسسته، فعاقبته هو بأربع سنين معتقلاً؛ أنظر للأمّهات الثلاث وغيرهنّ وأتعجّبُ من كونِ تاريخِ أمهاتنا المرضيّ هو تأريخ حوادثنا.

 


اصطحبتُ أمّي لطبيبها اليوم، في ردودها على أسئلته الأولى حول تاريخها المرضيّ، أعادت سرد تاريخيّ السجنيّ، عند الاختفاء القسريّ وقت الثورة أصيبت بجلطة، وعند الاعتقال الأخير ركّبت دعامة، وعند الحكم أصيبت بالسكّر، و إثر تعذيبٍ ركّبت دعامةً أخرى، ثمّ ثالثة، ثمّ الضغط …. ثمّ عددت له محطات عمري من اعتقالات واعتداءات وأحكام في الردّ على كلّ سؤال يخصّ ظهور مرضٍ جديد.


فكّرتُ في ليلى وأنا أنظرُ لأمّي في عيادة الطبيب، فكّرتُ في رُفيدة وأمل وسلوى وجهاد وهند ونجلاء وآلاف الأمّهات والشقيقات والحبيبات، الذين مرضوا بكلّ صفعةٍ أو حكمٍ أو أذىً تلقّاه حبيبٌ لهم على يد السلطة، وتساءلتُ عن جريمة هذه السلطة وكلاليبها الأمنيّة بحقّ أسرنا وآلاف الأُسر، بحقّ آلاف الأطفال الذين تمنّاهم المعتقلين.ات ومنعوا إنجابهم، عن مئات آلاف الأحلام التي لم تتحقّق، والأماكن التي لم تُزَر، والصحبةُ والوَنَسُ واللعبُ والبكاءُ والمتع والفواجع، عن عشرات آلاف الحيوات التي وأدت قبل أن تولد ثأرًا من حلمٍ وأد هو الآخر قبل أن تشرق شمسه، أو انتقامًا من وجود الناس-كلّ الناس- على قيد الحياة.


ظللتُ سارحًا في أسئلتي، ربّما لأتجنّب سماع المزيد من إجابات أمي، لكنّ وجهها، ووجه ليلى سيظلّان يربّيان حقدًا لا ينطفيء في صدري، آمل أن يعرف وجهته، ولا يشوّهني أنا أو يبتلعني في قعر ظلمته.


“من يُطالبُ الضحيّة بالتسامحِ قبل تحقيق العدالة، إنّما يطلب منها أن تشاركَ في الجريمة بصمتها”
حين عدتُ من المشفى وكتبتُ هذه الكلمات، تمنّى لي أصدقاء وصديقات أن أتخلّى عن الحقدِ والكراهيةِ، حفاظًا على روحي أنا وإن استحقّتهما السلطة، فعدتُ للتفكيرِ في الحقد -وهو غيرُ الكراهية بالمناسبة- تلك الجذوة التي وجب الإبقاءُ عليها داخل النّفسِ حتى لا تنسى حقّها، أو تفرّطَ فيما لها، والتي لولاها لاندثرت الحقوق وضاعت الأحلامُ وانتصر الطغاةُ والقتلة انتصارًا أبديًّا تنتهي به الحياةُ وما فيها من دفعٍ وصراع.
إنّما أتحدّثُ عن ذلك الحقدُ الذي يحفّز التذكّر ولا يغري بالنسيان، الذي يعبّرُ عن توقٍ صارمٍ للعدالةِ لا للانتقام، ذلك الدفاعُ الأخير عن الذات حين يتآمر القتلةُ على إنكارها ونسفها، ” على الناس ألا يسمحوا بأن يتكرّر ذلك ثانيةً، وهو ما لن يتحقّق إلا إذا امتلكوا وعيًا دائمًا، وغضبًا مستمرًّا تجاه تلك الفظائع واحتمالات تكرارها”.
لا أقصدُ الانفعالَ السلبيّ الأسود الذي يُشوّه الروح ويأكلها حتى تقلّد المجرم في جريمته دون أن تشبع، إنّما ذلك الشرطُ لتكوين ضميرٍ لا يتكيّف مع الجريمة، بل يقاومها ويدفعُ لإزالة آثارها بعدالة ويقطع الطريقَ على أي تسامحٍ مع إعادة إنتاج الظلم بالنسيان السريعِ ترفّعًا أو تأطُّرًا أخلاقيًّا مريحًا. لا يليقُ بي دور الضحيّة الدائمة، لكنّي بحسمٍ لا أقبلُ الشراكة في الجريمةِ بنسيانها أو التسامحِ مع وجودها وموجديها ولو على حساب صورةِ يدفعُ إليها تيارات التفلسف الأخلاقي التي تدعو للصفحِ، متجاهلين أنّ للضحايا حقّ في “موقف أخلاقي صلب” تجاه من أذاهم، وأن المطالبةَ بالتسامح ميلٌ للراحةِ أكثر من كونها اتجاهٌ خيريّ.

شارك

مقالات ذات صلة