تجارب
وهكذا، لم يكن اللقاء الأخير بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا مجرد مناسبة دبلوماسية، بل مشهداً مكشوفاً من مشاهد الضغط السياسي الممنهج، حيث سعت الولايات المتحدة، ممثّلة في ترامب، إلى ابتزاز جنوب أفريقيا بسبب مواقفها الأخلاقية إزاء قضية غزة. ففي مشهد يعكس التوترات الخفية والمتصاعدة بين جنوب أفريقيا والولايات المتحدة، شهدت الساحة الدولية حدثاً لافتاً، عندما اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من لقاء رسمي أداة لتقريع نظيره الجنوب أفريقي على رؤوس الأشهاد، متجاوزاً الأعراف الدبلوماسية، ومحولاً اللقاء من منصة حوار ثنائي إلى محكمة إعلامية مفتوحة.
لم يكن المشهد مفاجئاً تماماً، خاصة في ضوء مواقف جنوب أفريقيا الأخيرة، وفي مقدمتها تحركها الجريء أمام محكمة الجنايات الدولية لمساءلة إسرائيل بشأن الانتهاكات المرتكبة في قطاع غزة. موقف اعتبره كثيرون تعبيراً واضحاً عن استقلال القرار الجنوب أفريقي وانحيازه للقيم الإنسانية والعدالة الدولية، لكنه فيما يبدو، لم يرق لصناع القرار في واشنطن. فقد بدا جلياً أن ما حدث لم يكن وليد اللحظة، بل تم الإعداد له بعناية، فالعرض الذي قدمه ترامب أمام الإعلام تضمن مقاطع مجتزأة وتصريحات منسوبة لأطراف غير حكومية في جنوب أفريقيا، جرى توظيفها لإظهار الدولة في صورة تتناقض مع مبادئ المساواة والتسامح التي لطالما ناضلت لترسيخها منذ نهاية نظام الفصل العنصري.
الرئيس الجنوب أفريقي، وبثبات يليق بقادة الدول الراسخة في تجربتها الديمقراطية، تصدى لهذه المحاولة بأدب الدولة وقوة الحجة. فأوضح أن الحكومة الجنوب أفريقية تمثل جميع مكوناتها العرقية والدينية، وأن الجريمة، كما في أي مجتمع، موجودة ولكنها لا تستهدف فئة بعينها. بل ذهب أبعد من ذلك عندما استعرض بموضوعية التحديات المرتبطة بتوزيع الأراضي، مؤكداً أن 75% منها ما زالت في قبضة أقلية لا تتجاوز 7% من السكان، في ظل إطار قانوني يسعى لتحقيق العدالة لا الانتقام. ولم يكتفي بهذا الرد، فقد استثمر لحظة أتته من الله حملت كثيراً من الدلالات، حين ألمح أحد الصحفيين الأمريكيين إلى ما يُشاع عن «هدايا سياسية» من دول أخرى – كقطر – في صورة طائرات خاصة. رامافوزا، بثقة لا تخلو من التهكم، أجاب: “نحن لا نملك طائرات حتى نقدمها هدية، لا لترامب ولا لغيره”، في إشارة واضحة لرفضه الانخراط في منطق الابتزاز أو شراء المواقف.
إن ما جرى يعكس وجهاً آخر من استخدام “القوة الناعمة بمعناها السلبي”، حيث تسعى قوى دولية مثل امريكا إلى معاقبة الدول التي تتجرأ على الاستقلال بقرارها الخارجي، عبر تسليط الضوء الانتقائي على مشكلاتها الداخلية، وتحويلها إلى أدوات ضغط وتشويه على الساحة الدولية. فلم يغب عن هذا المشهد المليء بالرمزيات دخول إيلون ماسك، الملياردير الأمريكي من أصل جنوب أفريقي، على الخط بشكل بدا وكأنه “تصالح مع الجذور عبر التبرؤ منها”. إذ إن ظهوره في خلفية الحدث وتلميحاته غير المباشرة، أضفيا مزيداً من الغموض حول دوافع المشاركة، وكأنها رسالة مزدوجة: سياسية وتكنولوجية، مفادها أن من يخرج عن العباءة الأمريكية قد يُواجه ليس فقط بالمواقف، بل أيضاً بـ”الرموز”.
كان من المفترض أن يشهد اللقاء نقاشاً معمقاً حول بناء العلاقات الثنائية وبحث الفرص الاقتصادية والاستثمارية التي تتيحها جنوب أفريقيا كدولة صاعدة، لكن المشهد انحرف عن مساره، في أول توتر دبلوماسي علني بين البلدين منذ استقلال جنوب أفريقيا في أوائل التسعينيات القرن الماضي. فالواقع أثبت مجدداً أن واشنطن – في ظل قياداتها الشعبوية – لا تترك فرصة إلا وتحولها إلى معركة إثبات تفوق لا حوار شركاء. فما شهدته الساحة الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا يتجاوز حدود السياسية، ويكشف عن معركة قيم تدور في الخفاء، تتعلق باستقلال القرار، واحترام سيادة الدول، وحقها المشروع في اتخاذ مواقفها الأخلاقية والإنسانية.
هذا يدعوا إلى القول: آن الأوان لإعادة تعريف معايير الاحترام المتبادل بين الدول. فاستخدام النفوذ الإعلامي والسياسي للتأثير على خيارات الدول المستقلة، لا يخدم إلا مزيداً من الانقسام والاضطراب في النظام العالمي. وأن دعم الدول التي تقف إلى جانب العدالة، كما فعلت جنوب أفريقيا في ملف غزة، هو واجب أخلاقي قبل أن يكون سياسياً.
ومن هنا من مخيمات الصمود في غزة نحيي صنّاع القرار في جنوب أفريقيا الشقيقة، ونؤكد أن ما جرى يجب أن يكون دافعاً لا باعثاً للارتباك. هذا وقت تعزيز الجبهة الداخلية لدى شقيقتنا الكبرى، وتكريس سردية السيادة المسؤولة، وتوسيع التحالفات مع الدول التي تؤمن بالعدالة وحقوق الشعوب. إن الاستقلال السياسي الحقيقي يُقاس بقدرة الدول على الصمود أمام الضغوط، لا فقط بإعلان المواقف.
فجنوب أفريقيا اليوم لا تدافع فقط عن تاريخها، بل عن المستقبل العالمي الذي نطمح إليه: عالمٌ لا تُعاقب فيه الدول على مواقفها النبيلة، بل تُحترم فيه على شجاعتها.