سياسة
أحمد عوض
في صيف 1793، كانت باريس تحتضر تحت وطأة ثورةٍ أنجبت أحلام الحرية من رحم الدم، وفي قلبها وقف ماكسيميليان روبسبير، ثائرٌ حمل شعلة اليعاقبة كأنها روحه النابضة. كان الملك قد أُزهقت روحه على المقصلة، والجمهورية أطلت كطفلٍ هشٍّ وُلد من ركام القصور، لكن روبسبير ورفاقه، في نشوة التمرد، رفضوا أن يُطفئوا لهيب الثورة، فحوّلوا شوارع المدينة إلى مسالخ تحت راية “النقاء”. كل من شكّك في حلمهم كان عدوًا، وكل تسويةٍ خيانةٌ تُدنّس المبدأ. يسأل شابٌ من أزقة باريس، وهو يرى الدم يغرق الأحجار: “أتقتلني لتحرِّرني؟”، لكن صوته ضاع بين صرخات المقصلة، وغرقت الثورة في دماء أبنائها.
بعد قرابة قرنين، في شتاء 1982، كانت حماة تنزف تحت سماء رمادية، وأزقتها الضيقة تختنق بأنفاس الثوار الذين حملوا أحلامهم كمشاعل في ليل الظلم. كانوا، أبناء الأرض التي أنكرتْهم، يهتفون في وجه الرصاص، ظنّوا أن الثورة تنتصر بأحقِّيتها، إلا أن سرايا الدفاع ومراكز الأسد التدميرية للتطهير الوطني كان لها رأي آخر، وصارت حماة ركامًا يروي حكاية الخسارة. سأل شابٌ ناجٍ من تلك الأيام، بعد عقود، وهو ينظر إلى دمشق التي مزّقها الأسد قبل أن يسقط: “كيف نثور ولا نُحرق أنفسنا؟”
اليوم، بعد أن امتدت الثورة السورية قرابة عقد ونصف، هل صار الشباب السوري، لاهثًا في مضامير الرفض، يحمل الاحتجاج كدمٍ في عروقه؟ هل صارت الثورة المنتصرة جنّته، أم سجنًا أسَرَتْهُ فيه أحلامه؟
يذكر دانيال شيرو، الكاتب والمؤرخ الفرنسي والمتخصص بالثورة الفرنسية، في كتابه “هل قلتَ تريد ثورة: المثالية الراديكالية وعواقبها الوخيمة”، أن الثورات تنطلق في الغالب من شعارات راديكالية جذّابة ومثالية، تنجح في حشد الرأي العام والجماهير ضد الحكم القائم الذي تطيح به القوة الثورية وتنتقل إلى عرشه، مع التغييرات التي يفرضها الواقع الثوري، كتغيير شكل الحكم والعمل بقوانين الطوارئ وغيرها.
عند ظفر القوات الثورية بالحكم، تقع أسيرة الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإقليمية التي تركها النظام السابق إثر الإطاحة به، وتدرك مدى صعوبة تحقيق شعاراتها البرّاقة، كتحرير الفلاحين جميعًا من قبضة الإقطاع، وإنقاذ المجتمع من الطبقية، وغيرها من الرؤى الحالمة التي تخالف طبائع الشعوب في حالة السلم.
تعرف القوات الثورية الشعوب وطبائعها في أوقات الأزمات، في الأوقات التي يقتحم فيها الشباب الردى لتحقيق عدالة تأخرت عقودًا أو قرونًا، وتدفع فيها الأمهات بفلذات الأكباد في سبيل الطيف الماثل في ضمائر الجماهير الذين تغص بهم الساحات، أحياء أموات، في هذه الأوقات لا تكون الشعوبُ الشعوبَ، لأن الحكومات ليست الحكومات. تبدل الهويات في هذه الأوقات لا يجب أن يعطي انطباعًا نهائيًّا عن قابلية الشعوب المحكومة، إنها أوقات: الفكرة أثمن من الحياة.
القوانين والدساتير التي تُسَن وفق التصورات المؤقتة عن الشعوب، تزجُّ بهم في زنازين الظروف القاهرة. قد يكون الشعب مضحِّيًا بما لديه في سبيل الثورة والحرية، إلا أنه غير قادر على التضحية إلى ما لا نهاية، أو على الأقل دون أن يرى في الأفق نورًا يكمل المسير نحوه، ولذا فإن التصورات التي تستند إليها القوى الثورية، ومبالغاتها في تقدير طاقاتها استنادًا إلى ما رأوه من بطولات الشعب وتضحياته، تقيِّد هذه الحكومات الوليدة بقيد جديد: واقع منهار، شعب متعب.
لا تلبث الحكومات الثورية أن تقع في فخها القدري، فلا هي قادرة على الانسحاب من الساحة وترك ما أخذته بساعدٍ جريح، ولا هي مقتدرة لتحقيق شعاراتها الراديكالية التي تكتسب شرعيتها من الوعد بتحقيقها، الأمر الذي يحرض الجبهة الداخلية الشعبية ضدها، لظنهم أن هذه الحكومات تفرِّط بدماء أبنائهم قرابين لهذه السلطة، مما يزيد من أعداء الثورة، الثورة المنتهية!
تدرك السلطات ثمن اقتدارها لحصولها عليه بالدماء، وهي مستعدة للاستبسال حتى اللحظة الأخيرة في سبيل الحفاظ على مكتسبات الثورة التي أوصلتهم ليكونوا حارسها الحامي، ولذا، فإن خيار العنف الثوري لردع أعداء الثورة الطامحين للحياة يفرض واقعًا مغايرًا لما يجب عليه أن يكون، تمامًا كما فعل اليعاقبة آنفي الذكر، أنبياء نقاء الثورة.
غالبًا ما تلجأ القوى الثورية إلى إنشاء الأجهزة الأمنية والمخابراتية لإحكام قبضتهم على البلاد، كجهاز الـ”تشيكا” الأمني في نظام ستالين، الذي كان أول الفروع إنشاءً، والذي تلته فروع كثيرة لعل أهمها الـ”إن.كا.في.دي” (NKVD) الذي أشرف على الشرطة السرية، معسكرات العمل القسري (الغولاغ)، والاغتيالات السياسية.
استعرت الحكومات في كل المناطق ذات الحكم الثوري للحفاظ على مكتسبات الحكم بالقمع، كالصين وشيوعيتها التي قتلت عشرات الملايين غيلة أو تجويعًا، وإيران ذات الأهداف المقدسة والإمام المقدس المؤهل ليقود الشعب والحكومة، الدين والدولة، الدنيا والآخرة، وسوريا التي أسبغ فيها حافظ الأسد كل الهلوسات الثورية المريضة على ذاته، ليغدو القائد التحرري المقاوم للرجعية والإمبريالية وإسرائيل والحرية والشعب!
تدخل الشعوب في صراعات محمومة في هذه الحالة، إذ تنعدم إمكانية العنف للتغيير من جديد، فالسلطة القامعة ليست سلطة نسيها الزمان على عرشها ليعتريها الصدأ ويغطيها الغبار، بل هي سلطة ما زالت ملابسها العسكرية ترشح بالدماء.
بسقوط خيار العنف من جديد للتغيير، يقع الشعب ضحية قدر مشؤوم الملامح، فإما حرب عالمية مدمرة تطحن الشيوعيين والنازيين، وإما مجاعة تفترس خمسين مليون مزارع صيني، وإما دولة مخابرات تلتهم عقودًا من عمر البلد التاريخي، وتضع الشعب والقانون والدولة في يد المخابرات، كما هو الحال في سوريا. فالشعب السوري لم يثُر على دولة لها أعرافها، ولا على قانون يخلِّد عبوديته ببساطير جلاديه، بل على جمهورية الظلام الملكية، ونظام المخابرات.
ينطبق السياق السابق على الواقع السوري خلال فترة الحكم الأسدي، مع بعض التفرد السوري في الطغيان والتضحية، فقاتلنا قاتلًا ترهبه القتلة، وضحيَّتُنا ضحية ترثي لها الضحايا، لما ابتدعه حافظ الأسد من ديكتاتورية ديمقراطية منتخبة، تعلنه قائدًا للأبد، وتُعمّد سلالته حاكمة للشعب، قاتلة له.
ومع الابتداع الديكتاتوري ظهر الابتداع الكفاحيّ، جرَّب السوريون كل الطرق التقليدية للنضال، من الإضرابات إلى احتجاجات تقودها النقابات، والتي أسفرت عن تعطيلها واعتقال أعضائها والتنكيل بهم، وصولًا إلى كارثة حماة، التي قتلت ما يقرب من 10% من سكان المدينة، ودفنت سوريا في حقبة من الظلام لم تستيقظ منها إلا بعد ثلاثين سنة.
استعاد السوريون سوريَّتهم، هتفوا بحريَّتِهم لحريتهم، لوطنهم المحتجز في أنفاق الفروع الأمنية. أدركوا خصائصهم كشعب، إنهم واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد، وهم الشعب “الي ما بينذل”. لم تكن مجرَّد شعارات، بل حقائق كلّفتنا ملايين الشهداء والمغيَّبين حتى تحققت، وانتصرت إرادة الشعوب. إلا أن تحققها عبر التمرد على الظروف المحلية والإقليمية والدولية يحمل في طياته سؤالًا قلقًا حيال مستقبل هذا الشعب الواحد: هل سيستطيع إكمال حياته كبقية الشعوب، أم تنطفئ روحه مع ثورته؟
علينا أن نطرح الأسئلة التي من الممكن أن تكون مقدمات لتمرد بلا نهاية، بعد استحضار السياق الذي جعل من مسار التحرر السوري مسارًا طويلًا، ذا أربعين سنة من الاستبداد، وأربعة عشرة سنة من الصراع المسلح، تحت سماء تفرغ حمولتها من الصواريخ والبراميل والأسلحة الكيماوية بشكل يومي فوق منازل الشعب… وقبوره.
ترتبط بعض الأسئلة بالتغييرات الطارئة على شباب البلد، والتي يتوجب علينا استيعابها لمنع تحقق سيناريوهاتها السيئة، ولعل من أهمها انعدام الفكرة المركزية. الشتات السوري كان سيد الموقف في جميع الأصعدة: في التفكير، والتخطيط، وفي الطموح للزواج والعمل والاستقرار. شعب افتقد “سوريا” في حياته، يبحث عن “سوريا” أخرى في المرافئ والمطارات. يصعب على شبابه التقيد بمركزيته التي يحتمها عليه انتصار ثورته. سيجد هذا الشباب نفسه يسأل: إذا كنا جميعًا قادة، من يقود؟
كون الجميع قادة شتاتهم، وإراقة دماء المركزية، يقود إلى تفرق الأهداف. فالشعارات التي جمعت الشعب في ساحات الاعتصام والتظاهر لا تنجح في بناء الدولة وتسييرها، وهو ما أشرنا إليه في بداية المقال، من أن الشعوب أوقات الثورات ليست ذاتها أوقات الاستقرار. إن السعي لاستمرار الثورة بعد انتصارها يفرض سؤالًا هامًّا: هل نثور من أجل الحرية، أم نثور من أجل أن نثور؟!
الإجابة على هذا التساؤل أكثر تعقيدًا مما نتصور، إذ تختلط بالدوافع السامية، كالنضال من أجل رفع الظلم الذي لا ينتهي. ولعل النداءات للذود السوري عن الحياض الفلسطيني تندرج ضمن الثورة المستمرة بعد النصر. علينا أن ندرك أن ما سيسهم في تحرير فلسطين ويصب في مصلحته هو سوريا الدولة، لا الثورة السورية. الثورة كانت لتحرر سوريا، وانتصرت، وعليها أن تتوقف عند الثامن من ديسمبر، لتفسح المجال للدولة التي ستلعب دور البطولة في المرحلة، الدولة التي بنتها الثورة.
حتى حين اكتمال تجهيزات الدولة لدورها الذي تستلمه شيئًا فشيئًا من الثورة وعنفها وراديكاليتها، يتعين علينا الالتحاق بركب التجهيز. الثورة تضرم النيران في الدولة القديمة، لا لتزيدها؛ بل لتطفئها الدولة الوليدة. هنا يتعين على الشعوب الثائرة أن تدرك أنها شعوب بنّاءة تجهز لثورتها القادمة التي تستلهم من الثورة المنتصرة، لكن باستقلال عنها. وهنا السؤال: من يطفئ النيران، إذا أشعلها الجميع؟!
في أزقة دمشق، حيث يرقد الركام كشاهدٍ صامتٍ على أنين الثورة، وحيث تنتحب حلب على أحلام أبنائها، تقف سوريا بعد أربعة عشر عامًا من هتافات الحرية، كطائرٍ أُحرقت أجنحته لكنه يرفض الموت. أشعل الثوار نار التمرد ضد ظلام الأسد، لكن تلك النار، في نشوتها، أحرقت قلوبهم، فصار الاحتجاج دمًا في عروقهم، وسجنًا بنوه بأحلامهم. انقسام الصفوف، أيادي الدول، وجراح الثقة أطالت أمد الثورة، لكن الصدمة النفسية، تلك الندبة التي لا تُرى، هي من سيجعل الشعب يتشبث بدوامة الرفض.
“خسرنا كل شيء، فماذا نملك غير ثورتنا؟”، تساءل شابٌ في مخيمات الشمال، وعيناه تحدّقان في سماءٍ مُثقلة بالذكريات. لكن، من بين الأنقاض، ينهض جيلٌ جديد، شبابٌ حملوا أكفان الشهداء كمشاعل، وزرعوا بذور الأمل في تربة الوطن المُدماة. إنهم أبناء “حقل الأحلام”، الذين عرفوا العالم، وتعلّموا من دروسه، وعادوا ليبنوا سوريا لا تعرف الظلم.