آراء

معركة خسرتها وكسبتها السيّدة!

مايو 20, 2025

معركة خسرتها وكسبتها السيّدة!

كريك ديكسون، المحكوم الانجليزي بالسجن مدى الحياة، الذي قوبل طلبه وزوجته للسماح لهما بإجراء تلقيح صناعيّ، بالرفض، لكنّ المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان أنصفتهما وقضت بانتهاك السلطات البريطانيّة للاتفاقيّة الأوروبيّة لحقوق الإنسان، وأقرّت لديكسون وزوجته حقّهما في إجراء التلقيح الصناعي ، استنادًا إلى أنّ السجناء لا يفقدون حقوقهم الأساسيّة تلقائيًّّا بسبب سجنهم ومنها حقّهم في تكوين أسرة.
**

اتهمني رفاقي، واتّهمتُ نفسي بالأنانيّة حينَ فكّرتُ في الأمر -وقرّرته، علاء وحده دعمني فيه وناقشني طويلاً في أوّل الاعتقال، وظللتُ أتباطأ في سلك طريقه خشيةَ العبء الذي سألقيه به على نورهان، وحين قطعتُ أمري كنّا على وشط الانفصال، وبعدها بسنوات كانت صديقتي -الفلسطينيّة، الأسيرة المحرّرة- داعمًا وحيدًا، وعرضت الشراكة في القرار بحسمٍ وحماس، لكنّ نبلاً، أو حماقة، جعلاني أقفزُ لإنهاءِ كلّ شيءٍ هربًا من ذنبٍ قد يلاحقني إن فعلت، تجاهها وتجاه الطفل/المشروع.
ثمّ كانت البنتُ الجميلة، البعيدة التي تمنّيتُها أمًّا لطفلي، ورفيقةً للقادم من حياتي، حضرت طيفًا أو لم تقدر على حضوري أنا الطيفيّ، كانت كلّها وكنتُ أثرًا أو صورةً أو رسائل متقطّعات وقلقٌ لا ينتهي، لم تحتمل ما لا يُحتمَل، فتوقّفتُ بعدها حتى عن المحاولة.


في البدء كان مقاومةً لتعطيل حياتنا أو تخريبها، كنّا سننجبُ طفلاً إن أكملنا حياتنا بلا معتقلات، إذا لننجبه وأنا في المعتقل، ولنا في الأسرى الفلسطينيين المثل الملهم، هرّبتُ عشرات الساعات تحكي تجاربهم في تهريب النُّطف خارج الأسر، ولزوجاتهم ولأهلهم وأصدقائهم وجيرانهم، للمشايخ ولعلماء النفس والأطبّاء، وقرأتُ أبحاثًا ومقالات وشهادات، وددتُ لو أُحيط بـ “المشروع” من كلّ جانب، حتى جوانبه الشرعيّة والاجتماعيّة لأحسم قراري .

وفي المنتهى كان احتياجًا أخيرًا -وربّما وحيدًا- للتشبّث بالحياة خارج المعتقل، أو بالحياةِ أصلاً؛ كنتُ فكّرتُ في الانتحار كثيرًا، وهممتُ به غير مرّةٍ لولا أن ربط الله على ذهني، فتحايلتُ وانتبهتُ، وكانت ذاكرتي وخيالي قد بدءا خياناتهما لي، لم أعرف بعض أهلي في الزيارة، لم أتذكّر وشوش شهداء -كنتُ شاهدًا على لحظةِ استشهادهم- وسألت “مين؟” كثيرًا عن أسماء أصدقاء ورفاق حينَ سمعتها في حديثٍ أو رسالة.


أفلتَ الله يدي وقتئذٍ -أو أفلتُّ أنا يده- وفتّشتُ في نفسي وحولي وفي ما بقي من فتاتِ ذاكرةِ تجارب عرفتها هنا أو هناك، حتى استعدتُ الحلم القديم، لا رفضًا للتعطّل القسريّ هذه المرّة، لكن فِرارًا من الفناء، كنتُ وحيدًا كما لم أكن من قبل لذا لم أضحك الليلة حين سمعتُ: “حتّى قهوتك سنجل، إيه البؤس ده؟ ” تمازحني فتاةٌ جميلة، ولا أقولُ لها ما يعنيه الأمر،

تحوّل الأمرُ لنقاشٍ فلسفيّ وسياسي، تشابكنا بالكلام أنا وبعضُ أصحاب السجن من رفاق الثورة والعمر، لم أصارحهم بما يعنيه الأمر هم أيضًا، فقط اكتفيتُ بأن أدافع عن وجهة نظري دون الإفصاح عمّا يحمله القرار عاطفيًّا ونفسيًّا، رغم أنّ هذا هو جوهرة، لم أكن أحاول المقاومة أو خوض معركةٍ وقتها، فقط كنتُ أُحاول أن أنجو، لكنّ محاولاتي المتردّدات للفعل، فشلت كلّها إمّا لمضاعفة إجراءات التفتيش والمنع وطبقات المراقبة، أو فشلاً في العثورِ على “رحمٍ مستضيف” خارج السجنِ، وهي الخطوة التي كانت وحدها ستمكنني من خوض معركةٍ قانونيّة في المحكمة بمواجهة الدولة لأنتزع حكمًا بحقّي في أخذ العيّنات ونقل النطفةِ في مسارٍ طبيٍّ رسميٍّ إن لم أقدر على تهريب النطفة، وحين أخبرني أصدقاء خاضوا التجربة عن كلفتها الماديّة تخلّيتُ تمامًا باستسلامٍ قاطع.


بالأمسِ بدأتُ يومي بخبرٍ نشره “المركز المصري للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة” عن تقرير هيئة المفوّضين التاريخي بأحقيّة زوجة معتقل مصري في السير بإجراءات سحب العينات لها من زوجها، المحكوم بالسجن 15 سنة، لإتمام عمليّة الحقن المجهري.
لولا أنني لم أعد أبكي منذ سنين لفعلتُ، لكنّ بكاءًا صامتًا قديمًا مخزونًا فيّ كان قد حدث، وإن لم تبدُ له علامة، لعلّي شعرتُ بالانتصار-في معركةٍ خسرتها، أو خضتها متردّدًا، لكنّي أعرفُ تمامًا ما تعنيه وتمثّله لأصحابها.


كان الأولى أن يخرج الرجلُ إلى الحريّة -حقّه الأصيل هو وأسرته، لكن إلى أن يحدث ذلك، له ولكلّ المعتقلين/الأسرى؛ على الأقل على السلطة، أو مؤسسةً فيها أن توقف لا قتلهم وحدهم، بل قتل عشرات الآلاف من الأطفال الذين منعوهم من القدوم للحياة، بمنع حقّهم الأصيل في تكوين الأسرة، ولو كانوا سجناء.

شارك

مقالات ذات صلة