سياسة

من الحصار إلى الحوار: سوريا والإدارة الأمريكية على طاولة العقوبات

مايو 14, 2025

من الحصار إلى الحوار: سوريا والإدارة الأمريكية على طاولة العقوبات

-أحمد عوض


هبَّت نسماتٌ جديدةٌ على سوريا؛ لم تكن إعصارًا فيه نار، بل نسيمًا دافئًا جاء من الرياض يحمل في طياته خبرًا استثنائيًا: رفعُ العقوبات الأمريكية التي خنقت نبض الحياة في البلاد رغم تحررها. في تلك اللحظة، تبددت أصداء الحصار الثقيل، وبدت ملامح الأفق تتسع أمام أملٍ طال انتظاره، وكأن سوريا تستنشقُ حريةً لم تعرفها من قبل.

اليوم، تجلس سوريا وأمريكا على طاولة العقوبات بوجهٍ جديد، حيث يتحول النقاش من الصراع إلى الحوار، ومن الإغلاق إلى الفرص. في هذا المقال، نكشف عن كيفية ترجمة قرار رفع العقوبات وأثره على الاقتصاد والمجتمع والسياسة، وما التحديات التي تنتظر هذا التحوّل الكبير، لنرصد معًا تشكُّل ملامح سوريا التي تستعيد أنفاسها بعد طول صمتٍ فرضته قيود الخارج.

خلفيات العقوبات الأمريكية على سوريا:

 

وفق تقرير المركز السوري للعدالة والمساءلة؛ فقد بدأت العقوبات الأمريكية على سوريا في عام 1979، بعد أن اعتُبرت دولة راعية للإرهاب، وكان الهدف الأساسي منها منع دمشق من دعم الجماعات المسلحة والمنظمات المتطرفة. ومع بداية النزاع السوري في 2011، توسّع نطاق العقوبات ليشمل حظر التعامل مع المصرف المركزي السوري، وحظر صادرات النفط والغاز، بهدف الضغط على النظام للانسحاب من العنف ضد المدنيين ودفعه للانتقال السياسي وفق قرارات مجلس الأمن الدولي.

كانت العقوبات ورقة أمريكا والعالم الغربي الرابحة التي حفظت ماء وجههم أمام كذبة حقوق الإنسان، في ظل انعدام التدخل للحسم العسكري، وإيقاف إجرام الأسد المسعور في قتل الشعب السوري، وتقهقر الدبلوماسية أمام الغطرسة الروسية–السورية.

على مدى السنوات التالية، أدت العقوبات إلى تدهور اقتصادي حاد في البلاد، إذ تم حرمان سوريا من الوصول إلى النظام المالي العالمي، مما تسبب في تراجع قيمة العملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم. وفي ظل هذه الظروف، بدأت تبرز انتقادات للعقوبات، حيث اعتبر العديد أن هذه الإجراءات لم تساهم في تحقيق الأهداف السياسية، بل أسهمت في تدهور الوضع الإنساني، بينما ازداد نفوذ الحكومة السورية المؤقتة في الداخل والخارج.

لكن في 13 مايو 2025، جاء القرار المفاجئ من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برفع العقوبات بشكل كامل، وهو قرار فُسّر على أنه خطوة استراتيجية بعد أن طالت مدة الصراع في سوريا. دوافع هذا القرار متعددة، حيث أشار ترامب إلى أن العقوبات قد أدت إلى “مهمتها”، وأن الوقت قد حان للانتقال نحو مرحلة جديدة من بناء سوريا. كما كانت هذه الخطوة مدعومة من السعودية وتركيا، اللتين سعتا إلى إعادة دمج سوريا في مشاريع إعادة الإعمار الإقليمية بعد سقوط نظام الأسد السابق.

كما أشار مراقبون إلى أن رفع العقوبات هو محاولة من واشنطن لإعادة الحوار مع دمشق، وتعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب وإعادة الإعمار، حيث تعتبر هذه الخطوة مرحلة جديدة في العلاقات الدولية في المنطقة، بما يخدم الاستقرار الإقليمي.

كان هذا واضحًا في تصريحات ترامب بعد الاجتماع الذي جمعه بالرئيس السوري أحمد الشرع، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي انضم عبر الهاتف إلى الاجتماع، حيث صرّح ترامب أن “أحمد الشرع قائد حقيقي قاد الثورة وهو مذهل”، كما أضاف قائلًا إن “لدى أحمد الشرع فرصة حقيقية للحفاظ على وحدة سوريا”، لأنه “شاب مقاتل له ماضٍ قوي”، ولأن “اللقاء معه كان جيدًا جدًّا وهو رجل قوي”. كما ختم قائلًا: “أعتقد أن قرار رفع العقوبات عن سوريا لاقى ترحيبًا خاصة في الشرق الأوسط”. كل هذه الإشارات الترامبية لا تُغفَل في سياق استعادة العلاقات بين واشنطن ودمشق.

ما بعد العقوبات:

 

مع رفع العقوبات الأمريكية عن دمشق، دخل الاقتصاد السوري في مرحلة فاصلة بين الانهيار المديد والأمل بإعادة بناء الأُطر الاقتصادية المنهكة. فقد شهدت الليرة السورية على الفور انتعاشًا لافتًا، قفزت من نحو 11000 ليرة للدولار إلى حوالي 8400 ليرة خلال تداولات يوم الإعلان، وهو ما يُعادل تحسنًا بنحو 23% في يوم واحد. كما توقّعت تحليلات سورية أن تصل نسبة ارتفاع العملة إلى 40% بعد تحسّن ثقة المتعاملين.

من المتوقع أن ينعكس هذا التحسّن الفوري للعملة على سوق المال بتدفّق الدولار والسلع إلى السوق المحلية، إذ يصبح بإمكان الصناعات وقطاع التصدير إعادة استيراد مدخلات الإنتاج الأساسية. كما يُتوقع، وفقًا لتقارير CNN الاقتصادية، أن يمهّد رفع العقوبات الأرض لاستثمار أجنبي واسع؛ إذ تشير تقديرات إلى احتمال اندماج النظام المصرفي السوري في النظام المالي العالمي، ما يفتح الباب أمام تعامل البنوك المحلية مع المؤسسات الدولية وجذب رؤوس الأموال الأجنبية. وقد أشارت مصادر سعودية إلى توقعها “فرصًا استثمارية كثيرة في سوريا بعد رفع العقوبات الأمريكية”، خاصة وأن حكومات الخليج مثل السعودية وقطر تتطلع إلى تقديم مساعدات اقتصادية مكثفة.

الآثار الاجتماعية:

على الصعيد الاجتماعي، سلّطت سنوات الحصار الطويلة ضربة قاصمة للخدمات العامة، وتسبّبت بتفاقم مشكلات البطالة والفقر بشكل غير مسبوق. فوفق تقارير أممية، يعيش اليوم أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، وتجاوزت نسبة العاطلين عن العمل 50%، نتيجة انهيار القدرة الشرائية والأجور بعد سنوات الحرب. وقد أوصدت العقوبات أبواب الوصول إلى الأدوية والوقود، مما عمّق أوجه المعاناة في قطاعات الصحة والتعليم، وأجبر السكان على الاعتماد شبه الكامل على المساعدات الإنسانية.

ولذا يُعقد الأمل على رفع العقوبات بأن يُخرج البلاد من تلك الأزمة الخانقة؛ فكثير من المحللين يتوقعون أن يؤدي التحسّن الاقتصادي المرتقب إلى تحسّن ملموس في الحياة اليومية للسوريين. فمن جهة، ستتسنى للمؤسسات الصناعية والطبية استيراد الأدوية والآلات والوقود الحيوي بشكل أسهل، وهو ما يخفف أزمة الكهرباء والوقود الحادة التي ضربت المواطنين طوال السنوات الماضية.

ومن جهة أخرى، فإن التدفق المحتمل للاستثمارات وإعادة الإعمار يُفترض أن يخلق فرص عمل واسعة، بدءًا من مشاريع البناء الكبرى إلى تنشيط قطاعات الخدمات والزراعة. وقد رأى الخبير الاقتصادي د. مازن ديروان، المستشار الأول لوزير الاقتصاد والصناعة السوري، أن دخول شركات تطوير عقاري كبرى، على سبيل المثال، سيسهم في عودة آلاف السوريين إلى بيوتهم، ويولد طلبًا هائلًا على مواد البناء والكفاءات المهنية، ما يعيد إحياء سوق العمل تدريجيًا. غير أن هذا التحول يبقى مشروطًا بمدى قدرة الحكومة الجديدة على إعادة تشغيل شبكات التعليم والصحة القديمة، واستثمار الموارد الموعودة من المانحين، حتى لا تطغى فجوات البنية التحتية على أي انتعاشة تبدأ في الظهور.

الأبعاد السياسية:

 

على الصعيد السياسي، فإن رفع العقوبات يشكّل استئنافًا لعلاقات سوريا بدول عدة بعد عزلٍ امتد عقودًا. فهو يعطي إشارة إيجابية للمجتمع الدولي ومنظمات التمويل العالمية بشأن سوريا “الجديدة” وقابليتها للحوار. فقد أعادت هذه الخطوة الأمل حتى لمنظمات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في العودة للعمل مع دمشق، كما فتحت الباب أمام زيادة التعاون الثنائي مع دول الخليج وتركيا التي سعت مؤخرًا لمناصرة الاقتصاد السوري.

وفي هذا السياق، رحّب وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بالقرار، واصفًا إيّاه بأنه «نقطة تحوّل محورية للشعب السوري» تمهّد لمستقبل من الاستقرار والاكتفاء الذاتي. ولم تقتصر ردود الفعل الدولية على الكلام؛ فقد أبدت أكثر من 20 دولة – من أعضاء مجلس التعاون الخليجي إلى دول أوروبية ومانحين دوليين – دعمها لتحويل سوريا من حالة عزلة إلى اندماج تدريجي مع المحيط الإقليمي والدولي.

كما يسعى ترامب شخصيًا إلى استقطاب دمشق إلى منتديات استثمارية وإقليمية، حيث دعا الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع للانضمام إلى اتفاقات دولية مع مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، فإن استمرار المشاركات السياسية مشروط بجدية خطوات الإصلاح الداخلي.

فمع ترحيب الجميع بتحوّل دبلوماسي جديد، يحذر خبراء من أن المضي قُدمًا يستدعي إصلاحات سياسية هيكلية. فدون بناء مؤسسات دولة فعّالة ونزيهة، وضمان تداول سلمي للسلطة، قد يبقى التقدّم الدولي هشًّا. وهنا نستطيع أن نقول إن قرار رفع العقوبات الأمريكي كان قمة التقت فيها الرغبة الدولية باستعادة سوريا دورها الإقليمي والدولي، مع الإرادة الداخلية المحلية المتركزة على الإصلاح وإعادة الإعمار.

من رفع العقوبات إلى رفع السقف:

 

ليس رفع العقوبات عن سوريا نهاية قصة، بل بداية فصلٍ جديد يُكتب بالحذر والاحتمالات. فأن تتحوّل القيود إلى فرص، هذا لا يعني أن الطريق ممهدة، بل أن هناك فرصة أخيرًا لاختبار ما إذا كانت سوريا قادرة على النهوض من ركام الحرب، لا بآلة النظام، بل بقوة التغيير والإرادة الجمعية.

الرهان الحقيقي ليس في قرارات الخارج فقط، بل في الداخل السوري الذي يحتاج إلى إعادة ترميم الثقة قبل ترميم الجدران. وحده التقاء المصالح الدولية بالإصلاحات الوطنية الصادقة يمكن أن يُخرج سوريا من عنق الزجاجة، ويحوّل رفع العقوبات من استثناء دبلوماسي إلى لحظة مفصلية تعيد تشكيل ملامح بلد أنهكه الحصار، لكنه لم يفقد حقه في التنفس. لقد دارت عجلة الزمن، وها هو الحوار يُطلّ على الأطلال، فهل تبني سوريا ما هدمته الحرب… أم تبقى في دائرة الانتظار؟

شارك

مقالات ذات صلة