مجتمع

دير الزور.. سباق مع الموت

مايو 4, 2025

دير الزور.. سباق مع الموت

-د. أنس الفتيّح

 

 

 

 

أرض ملغومة تتربص بأبنائها:

في زوايا شوارع دير الزور المدمرة، بين بيوتها المحطمة وأشجارها الذابلة، يكمن عدو خفي لا يرحم. إنها الألغام الأرضية والعبوات الناسفة، قنابل موقوتة تنتظر ضحاياها، ليست مجرد قطع حديدية، بل قتلة صامتون يتربصون بالأبرياء، يخطفون الآباء من أبنائهم، والأطفال من أحضان أمهاتهم، والفلاحين من أرزاقهم.

 


في محافظة عانت ويلات الحرب لسنوات طويلة، ها هي تواجه اليوم حرباً جديدة: حرب البقاء في أرض ملغومة تُعد من أخطر المناطق في سوريا، تعاني ويلات النظام البائد الذي زرع الموت في أرضها وتركها تنزف بعد سقوطه.
رحل النظام تاركاً إرثاً من الدمار والخطر يهدد أحلام العائدين وأمل الثورة في بناء وطن آمن.

 

 

 

إحصاءات مروعة:

الأرقام تكشف حجم الكارثة الإنسانية. فمنذ 8 كانون الأول 2024 وحتى 25 آذار 2025، سجلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر 748 إصابة بسبب الذخائر المتفجرة في سوريا، منها أكثر من 500 إصابة في كانون الثاني 2025 وحده، أي إصابة كل ثلاث ساعات تقريباً.
وتتصدر دير الزور هذه الأرقام المروعة، حيث وثق المشفى الوطني في المدينة 27 حالة وفاة و171 إصابة خلال شهري كانون الثاني وشباط 2025 فقط.

 


هذه ليست مجرد أرقام، بل قصص أطفال فقدوا براءتهم، وعائلات مزقت في لحظات كانوا يظنونها بداية السلام.

 

 

 

عودة محفوفة بالمخاطر:

 

المأساة تتجاوز الإحصاءات، فالألغام تحولت إلى سجان غير مرئي يحاصر السكان بين المخاطرة بالعودة إلى ديارهم الملغومة أو البقاء في مخيمات النزوح بلا أمل.

 


هذا السجن النفسي لا يقل قسوة عن الألم الجسدي، فكل انفجار يبتر أطرافاً ويقتلع أحلام الازدهار، مخلفاً جروحاً عميقة في ذاكرة الناجين.
دير الزور، سلة غذاء سوريا سابقاً، أصبحت ساحة موت بطيء، حيث تحولت حقول المراعي إلى حقول ألغام، والأسد الفار لم يترك المحافظة سوى أرض محروقة.

 

 

 

تضحيات تواجه الموت:

 

قصص الضحايا تضيف بُعداً إنسانياً مؤلماً.
محمد أحمد الحسين، الملقب بـ”أبو دباك”، شاب من دير الزور، فقد والديه بانفجار لغم، فقرر أن ينذر حياته لنزع الألغام وإنقاذ الآخرين.
نجح في إزالة نحو 75 لغماً موثقاً جهوده بالصور، لكنه استشهد في 25 آذار 2025 أثناء تفكيك لغم في بادية دير الزور، ليعطينا درساً في التضحية وأملاً في أن نكمل ما بدأه.

 

 

 

إمكانيات محدودة في مواجهة الكارثة:

 

التحديات هائلة، والإدارة الجديدة، رغم جهودها، غير قادرة بمفردها على مواجهة هذا الكابوس.
وزارة الطوارئ الجديدة تبذل جهوداً كبيرة رغم ضعف الإمكانيات، وتسعى إلى تنسيق عمليات إزالة الألغام بدعم من المنظمات الإنسانية.
ورغم أن فرق الوزارة تعمل بأقصى طاقتها، إلا أن نقص المعدات والموارد يحد من فعالية عمليات المسح والإزالة.

 


في هذا السياق، تلعب الخوذ البيضاء دوراً حاسماً، حيث يشارك متطوعوها في عمليات الإنقاذ الأولية، ويتلقون تدريبات على الإسعافات العاجلة لضحايا الانفجارات، كما يعملون على توعية السكان بكيفية تجنب المناطق الخطرة.


الأمل معقود على استمرار هذه الجهود، إذ تسعى وزارة الطوارئ المستحدثة إلى بناء قدرات محلية قادرة على مواجهة هذا التحدي، فيما تواصل الخوذ البيضاء عملها الإنساني البطولي رغم المخاطر.

 

 

 

حلول مبتكرة:

 

نزع الألغام يتطلب تقنيات متطورة وخبرات متخصصة تفتقر إليها المنطقة.
الآليات التقليدية تعتمد على فرق بشرية تستخدم أجهزة كشف المعادن، لكنها بطيئة وخطيرة، كما أثبت استشهاد أبو دباك.
أما الآليات الحديثة، كالروبوتات والطائرات المسيّرة المزودة بكاميرات حرارية وأجهزة كشف متطورة، فتقلل المخاطر وتسرع العملية.
وقد نجحت فعلاً في كولومبيا بتطهير آلاف الهكتارات، لكن نقص المعدات والتمويل يعيق التقدم، وكثير من المناطق لم تُمسح بعد، مما يجعل الموت كامناً في كل زاوية.

 

 

 

نداء عالمي: ضرورة التعاون الدولي

 

المشاركة الدولية ضرورة إنسانية وأخلاقية لدعم سوريا الجديدة وتحقيق أهدافها.
نزع الألغام يتطلب تعاوناً يشمل: توفير معدات متطورة، وتمويل يكفي لتغطية تكاليف إزالة كل لغم، وتدريب الكوادر المحلية على التقنيات الحديثة، وتنفيذ حملات توعية لتعليم السكان تجنب المخاطر، وتقديم دعم طبي ونفسي للناجين، وإعادة تأهيل البنية التحتية.
وهنا برزت تجارب دول مثل أفغانستان، حيث طُهرت مساحات شاسعة بمساعدة دولية، تثبت أن التعاون يمكن أن يغير الواقع.

 

 

 

مسؤوليتنا:

 

الأمل ممكن.
فكل لغم يُزال يعيد أسرة إلى منزلها، وكل حملة توعية تنقذ طفلاً.
إزالة لغم قد تكلف بضع مئات من الدولارات، لكنها تنقذ حياة وتعيد للأرض قيمتها.
دير الزور مجتمع على حافة الهاوية يستحق النجاة، والثورة التي قامت ضد الظلم تستحق أن ترى ثمارها.
الوقت يداهمنا، وكل يوم يمر تُزهق فيه أرواح جديدة، ولم يعد الأمر بسبب النظام البائد فحسب بل صار اليوم مسؤوليتنا جميعاً.
إنقاذ دير الزور استثمار في السلام واختبار لقدرتنا على حماية الأبرياء.

السؤال الملح: هل سنظل متفرجين، أم سنكون جزءاً من الحل؟

شارك

مقالات ذات صلة