مقالات سوريا

“يا حيف”: تفكير في المماهاة بين الدولة الأسدية والدولة السورية الوليدة

أبريل 6, 2025

“يا حيف”: تفكير في المماهاة بين الدولة الأسدية والدولة السورية الوليدة

زيد محمد



لم تكد الأنباء تتوارد عن شن حرب على الدولة السورية الوليدة من قبل تشكيلات للدولة الأسدية المهزومة والمدحورة ذات النواة المُنحلُّ جُلُّها في الساحل السوري، وإعلان النفير العام ضدها، حتى استحضرت تعبيرات تستدعي عاطفة عامة واستقبالا عامّا للدولة السورية الوليدة والسياق السوري العام على أنهما الدولة الأسدية وسياق انطلاق الثورة السورية. باختزال ضروري، يمكن القول إن المقاربة تقوم على أساس أن هناك دولة راسخة، ذات سيادة كاملة ومستقرة على جغرافيا موحدة، يمكن فيها تمييز المدنيين خارج السلطة من جهة وأجهزة السلطة المحتكرة للعنف ـــــ ذات الهرمية والانضباط بطبيعة الحال ــــــ من جهة أخرى. ولعل أبرز تعبير يلخص فكرة المماهاة والمطابقة بين دولتين وبين سياقين، في حالاتها القصوى وتتبيانها الأشد، استخدام تعبير “يا حيف”، في إحالة لبدايات الثورة السورية.

 

يفكر هذا النص في تفكيك جانب من جذور المماهاة والمطابقة، ومعاينة الحقوق بين الموقف الأخلاقي والمجاني، وما يمكن أن يعنيه على مستوى أدوات تفكير في الواقع السوري لأجل معرفة عادلة.

 

جذور للمماهاة والمطابقة: بين التلقائية والسياق

 

بعيدا عن أعداء الثورة السورية المحليين والإقليميين والدوليين، ودون الخوض في بنى الأعداء والخصوم الأيديولوجيين للإدارة السورية وإن تقاطع جزء من النقد جزئياً أو كلياً مع مسالك بعضهم، يتبدى للذهن وجود خلل بنيوي في تفكير دوائر ثورية أو محسوبة على الثورة السورية ساهمت في إطلاق تلك الموجة من المماهاة والمطابقة. يفكر هذا النص بجانبين منها: التلقائية والسياق.

 

أولا، التلقائية. يمكن القول إنه لكي تكون التلقائية تلقائية فهي تحتاج إلى عنصرين: سرعة الفعل وانخفاض الانشغال بالتفاصيل. إلى ذلك، فحتى تكون التلقائية أقرب ما أمكن للصحة فإنها تمزج بين تراكم المعرفة وتراكم التجربة. يمكن تشبيه ذلك بقيادة السيارة: فالسائق يدرس مكونات السيارة ويتدرب على قيادتها ويحتاج لفترة معقولة من التدريب والتصويب حتى يقودها بتلقائية. فهل كان هناك إطار تراكمي يسمح، من حيث المبدأ، بتكوين ردة فعل تلقائية؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، فتجاه ماذا؟ وإن كان هناك خياران فقط، ضمن إطار جهة شنت الحرب وجهة ترد على تلك الحرب، فهل توجه التلقائية صوب تشكيلات الدولة الأسدية أم الدولة السورية الوليدة؟ بمعنى، هل تشكيلات الدولة الأسدية هي الأقرب للاستشراف، وهي المختَبرة على مدى 54 عاما، معلومة الانضباط والهيكلية والأنساق؟ أم الدولة السورية الوليدة، التي تضم بنى قيادة ثورية وتشكيلات ثورية ومعارضة، بجيدها وسيئها، مرت بمراحل وتغيرات وتحولات، وهي بنى غير متجانسة وغير هرمية ضمن إطار تشكيل الدولة؟

 

ثانيا، السياق. راج تصور عقب تحرير سوريا مفاده أن هناك دولة وهناك سلطة وهناك أجهزة استبدلت دولة بدولة. راج التصور بشكل ضمني أكثر بكثير مما قيل بشكل صريح؛ وأمكن لمسه في سياق تطبيلات وانتقادات وجهت للإدارة السورية وشخوصها ومؤسساتها بين مُتَّسِع ومُتشكل. الوجه الآخر لهذا التصور هو اختفاء البنية الأسدية أو عطالتها الكلية في المشهد السوري. أين ذهبت نواة الدولة الأسدية، المخابرات والحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والقوات الجوية؟ وأين ذهبت بقية أجهزتها وتشكيلاتها وبناها الأمنية والعسكرية والاقتصادية والتضليلية، في يوم وليلة؟ وأين ذهبت بقية التشكيلات والقوى والذيول والعملاء ورعاتهم؟ هل حررت كل الجغرافيا السورية، وتوحدت؟ وهل يجتمع جلادو المجتمع السوري تحت سيف القصاص وأبرياؤه تحت الشمس؟ أم أن تذمرا عاما، بمعزل عن نقاش أسبابه، كان قد تولد في عموم أوساط الثورة وضحايا الدولة الأسدية، يتلخص في اعتبار الدولة السورية الوليدة مفرِّطة في موضوع العدالة؟

 

استُعيض عن تلقائية متعذرة وسياق مغيب بتلقائية خاطئة وسياق وهمي. الناتج المعرفي لبنية كهذه تجهيلي، وما يصح عنها يصح بالصدفة، والاتكاء على الصدفة ضامن معرفي وعملي للجهل والفشل.

 

الحقوق: بين الموقف الأخلاقي والموقف المجاني

 

إن كانت المسؤولية الأخلاقية تحتم الوقوف مع الضحية ضد الجاني، وهي لا بد كذلك، فالمسؤولية الأخلاقية عمياء من حيث المبدأ ومبصرة من حيث التطبيق. يعني ذلك أن المسؤولية الأخلاقية عمياء في مبدئها في الوقوف مع الضحية، أي ضحية، ضد الجاني، أي جانٍ، ولتحقيق ذلك في أرض الواقع وجب تعريف الضحية وتعريف الجاني. وهذه المسؤولية في وضع مشابه للوضع السوري هي مسؤولية استثنائية من باب أنها تتعامل مع أوضاع استثنائية إذا ما قورنت مع جُلِّ جيرانها وأشقائها.

 

تتولد الأوضاع الاستثنائية عن وقائع وشروط استثنائية تخفض فرصة الاستناد على الأدبيات الشائعة وتفتح فرصة اجتراح أدبيات جديدة أو غير اعتيادية. إذا ما نُظر إلى فلسطين، فإن واقعة الاحتلال والاستيطان الإحلالي تستدعي عملا مفاهيميا، وما يتفرع عنه من عمل سياسي وحقوقي وأدبي وفدائي وغيره، مع المستوطن والشعب تحت الاحتلال، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. وبناء عليه، فإن التناول المفاهيمي لتجمع المستوطنين على أنهم “مدنيون” (أبرياء) و”عسكريون” (أهداف مشروعة ضمن “خطوط حدودية احتلالية” مائعة التعيين) يبرؤهم من فعلهم الأساسي، وهو الاستيطان الإحلالي. ولذلك فإن التناول السابق يولد تصورين، فمن جهة فإن تجمع المستوطنين له شرعية الوجود في فلسطين، ومن جهة أخرى فإن عمليات المقاومة التي تستهدفهم هي عمليات غير شرعية. وهذا كان المدخل للطعن بملحمة السابع من أكتوبر وعمليات فدائية أخرى على مر الزمن منذ بناء الكيان في فلسطين. لا يخلو الواقع السوري بدوره من وقائع وشروط استثنائية تستدعي أدبيات جديدة أو غير اعتيادية.

 

ضمن هذا الإطار، فإن استجابة دوائر نخبوية وناشطيّة ومؤسسات ومنظمات عاملة في الشأن السوري مناهضة أو معارضة للدولة الأسدية لم تكن سوية معرفياً ولا صالحة أخلاقياً في التعاطي مع تطورات وانكشافات السياق السوري. لم يطرأ هذا فجأة بعد تحرير سوريا من الدولة الأسدية، إذ أخذ يتسع ويتراكم منذ السنوات الأولى للثورة السورية؛ فهو لا يبدأ من طروحات وإدانات تناولت الهجوم على الكلية الحربية في حمص في الخامس من أكتوبر 2023 لأنها “منشأة تعليمية”، ولا ينتهي عند تمييز البراءة عن طريق النظر إلى الثوب المدني الذي ارتدته الدولة الأسدية بعد دحرها عن السيادة على سوريا. أيضاً، لم تكن تلك الاستجابة صالحة أخلاقيا لأنها لم تكن سوية معرفيا، ذلك أن صحة الأدوات المعرفية لازمة لصواب الاستجابة الأخلاقية.

 

بدلا من العمل على تطوير أدوات معرفية ليُعلم الواقع السوري من خلالها، رُكن لـ”سلامة” إطلاق مواقف مجانية تدين النفير العام لأنه نفير عام وتقارب الوضع على أنه سلطة ظالمة مسلحة تنقض على مواطنين عُزَّل. إلا أن هذه “السلامة” افتقرت للسلامة، ذلك أنها أطلقت ديناميات ساهمت بمحو الفرق بين الضحية والجلاد وعدم التمييز بين البريء والمدان وعدم التفريق بين المعتدي والمعتدى عليه وزيادة الاستقطاب الهوياتي فيما لا يعين بريئا ولا ينصف ضحية ولا يعاقب جلادا. وهذا فعل مضيّع للحقيقة والحقوق.

 

أين الطريق؟

 

تستدعي بنية التفكير محل النقد جهدا جادا وتأسيسيا لأجل معرفة عادلة. يتطلب ذلك عملاً مفاهيمياً ومعرفياً ينطلق بأدوات قادرة على استنباط المعرفة وبناء التراكم المعرفي في المعلومة والأنساق. يبني ذلك تصور السياق ويصوب التلقائية ويردم الهوة بين المبدأ الأخلاقي وتطبيقه. تستدعي بنية التفكير أيضا أسئلة من قبيل: ما العلاقة بين المعرفة والحق؟ وكيف تعين المعرفة الحق وتنحاز إليه؟

 

ليست مصادفة لغوية أن الحق بذرة للحقيقة والحقوق. وليس غريباً أن من يريد الحقوق عليه التمسك بالحقيقة والتجذر في الحق.

شارك

مقالات ذات صلة