آراء

من أين يأتي “الابتهال” القادم؟!

أبريل 6, 2025

من أين يأتي “الابتهال” القادم؟!

وقفت ابتهال على حافة الهاوية الوظيفية، تهزئ مديرها على البث الحي، تلعنه وهو المدير التنفيذي لقسم الذكاء الاصطناعي في ميكروسوفت، أي إن ذلك الرجل بحد ذاته يشرف على ميزانية تقدر بـ80 مليار دولار تعتزم الشركة العملاقة العالمية إنفاقها على تطوير مراكز بيانات متقدمة بالذكاء الاصطناعي في عام 2025 “فقط”، لا يهم ذلك كله، تواصل الفتاة فعلها “المتهور”، تلقي وشاحها في وجهه، تلقنه كلمات يتوسطها لفظ مثل “فاكينج”، ثم تخرجها حارسة الأمن الشقراء، بينما تواصل الفتاة الفعل ذاته، أو الكلام ذاته، بمزيد من الإمعان في الاتهام وتسديد الكلمات..


ربما لو كان المشهد غير المشهد، وكان ذلك كل ما تعرفه عنه، لظننت أنك أمام “أغبى” فتاة رأيتها في حياتك، فمن يضحي بوظيفة في ميكروسوفت، وأي مبرمج ذلك الذي يصل إلى تلك الناطحة ثم يقفز من فوقها فجأة وبأسوأ الطرق؟ لكن ينقلب الفعل “الأخرق” إلى “خارق”، و”الطفولي” إلى “بطولي”، والصياح المدجج باللعن والسب إلى أشعار وطرب وألفاظ محببة، حين تسمع “ابتهال” الفتاة المغربية الأصيلة للغاية، والتأكيد على الأصل هنا ليس من نافلة القول، خاصةً وأن الذي أمامها هو “مصطفى سليمان”، معدوم الأصل، مجهول الجذور، مقطوع الفرع، عربي الأصل بهوى أمريكي كامل، رجل أبيض سكب فوق نفسه آلاف المساحيق المبيضة الأخرى، ليصير ملكيا أكثر من الملك، وأبيض أكثر من الرجال البيض أنفسهم، مشرفًا بنفسه، ورحلته العصامية، على تدمير أحلام آلاف الأطفال في غزة، ومساعدة جيش الاحتلال في سحق مدينة عربية وذبح وجرح أكثر من ربع مليون إنسان فيها، وتهجير مليوني إنسان، والتسبب في أشنع إبادة عرقية عرفها التاريخ، بأسلحة لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل.

تفهم الآيات بسياقها وسباقها ولحاقها، وتفهم المواقف بالظرف الذي جاءت خلاله، وتفهم التضحيات بالأثمان التي دفعت فيها، وعليهِ فكل كلمةٍ لا تكلفك شيئًا هي أدنى من جهدك وأقل من واجبك، وكل فعل لا ينبني عليه مقابل تدفعه هو أضعف من المفروض عليك، وإنما جاء الجهاد من أصل “جهد”، فلا يكون جهادا إلا إذا أجهد صاحبه، ولذا قد لا يعد الرباط في مواضع الراحة مجاهدة، ولا يحسب المنفق من فضلة الخير مجاهدا، وإنما تفهم العزائم بحسب المدفوع مقابلها، وتدرَك قيمة المعادن بما تكلف من جهد إخراجها على ندرة إيجادها؛ وإلا فهناك في الدنيا أحجار، يمكنك أن تلقم منها كل كلبٍ عوى حجرًا، وهناك “أحجار كريمة”، يصبح صخرها مثقالا بما هو أغلى من الدنانير كلها. 


في لحظة جنون حميدة، وتمرد مجيد، تلقي ابتهال بكل شيء خلف ظهرها، إن كان الصمت من ذهب فإنها اختارت صوتا من ياقوت، لتدهس حلمها الذي عاشت لأجله وتشققت كعوبها سيرًا على شوكه، وركلت كل ما كانت تدخره من مستقبل في مكان كهذا، تجتمع فيه تحت مظلة واحدة مع بيل جيتس وأصحاب “ميكروسوفت” الملهمين، القتلة، الذين يتأسى بهم العالم في قصص النجاح ودكاكين التنمية الذاتية، وهم أنفسهم سبب شريك في مآسي صغار غزة، أشلاءً أشلاءً!

تمضي وتعلن رمي عصاها هي الأخرى، استحالت كوفيةً بالأبيض والأسود، مطرزةً بالأخضر والأحمر، تلقف ما يأفكون، وتأكل ما يروجون، وتزنق مصطفى -البراء منه اسمه- في زاوية، وهو ذلك العبد الحقير لسيده الأوروبي، الطموح السفاح، لاعق الأحذية ومصاص الدماء، التناقض الصارخ، والذل المشين، والعربي العبري، والذكي الغبي، والمبرمج مصاص الدماء، والمهندس حاصد الأرواح، وتلك طبيعة الغرب الاستعماري، أن يكون هو ذلك التقدم المتخلف، والتقني الرجعي، والشيء الذي يعلي قيمة الشيء ويفقأ عيون الإنسان، جلسة “مصطفي” في ميكروسوفت علمته ذلك كله، ورغم أنها الجلسة نفسها لابتهال، فإنها من علمت مجالسيها كيف يكون الأصل صارخا، واضحا بشدة، جليا لا يقبل مواربة، أبيض وأسود دون رمادية باهتة، بحجابها، وبنور قلبها، وبإيمان وقر في صدرها، وبكلمة هي قائلتها، وبأشياء كمنت في حنجرتها لحظة صرخت بالكلام.


أقامت ابتهال الحجة، على من يسوقون حجج العجز حتى تطيب لأنفسهم من دون قصد، أحرجتنا جميعا، بينت لنا الطريق السهلة، المكلفة، معادلة صعبة ستتخذ فيها أسرع المواقف، بأبهظ الأثمان، حينها لا تتردد في أن تقدم على الأمر دون تفكير، في وسع كل منا أن يفعل الجنون ذاته، ربما لن تودع السجن، لكنها صارت سجينة الطرد وإلغاء التأشيرة والترحيل من وظيفة المستقبل التي كانت تحلم بها، وبعضنا ربما لن يفقد وظيفته، لكنه قد يودع السجن لموقف يفعله، وبعضنا لن يسجن ولن يرحل ولن يفصَل، وإنما قد يدفع حياته ذاتها ثمنا، كل ذلك في إطار الطريق، وبين ضفتي النهر ومجرى الطوفان، ليختلط الفداء بالفداء، والعمر بالعمر، والدم بالدم، ويتمها الله بأن يختلط الأجر بالأجر؛ كلمة وفعل وكاميرا وصوت مرتفع، والكثير من السبل إلى المجد الخالد، والإلهام الأبدي.. فمن أين يأتي “الابتهال” القادم؟

شارك

مقالات ذات صلة