آراء
تأثّر جسمي وعقلي بالمتابعة خلف الشاشات كما لم يفعل بالمباشرة في عين الحرب وقت كنتُ هناك، ولأكتب كلمةً على حسابي يلزمني حشد طاقة هائلة لا أملك منها شيئًا، وأنا هنا بين أهلي وفي بيتي تتوفّر لي سبل الطعام والشراب واللباس والانتقال ومقابلة الأطبّاء والمعالجين والحصول على الدواء، لكنّ شيئًا من حياتي لا يسير، كأنّما فقدتُ روحي تحت أنقاض مشهد غزيٍّ فات عليه أكثر من عام ونصف، ولازال عرضه مستمرًّا، أتألّمُ في كلّ لحظة (هذا الوجع الماديّ الذي يمكن قياسه ) يصعب عليّ التنفّس، وأعجز عن الفعل-كلّ فعل حتى الحزن، ولولا بقيّةُ حياةٍ في ركنٍ بعيدٍ فيّ تتمسّك بالتذكّر والتذكير ولو صراخًا في الشارع أو صفحات التواصل لانتهيتُ تمامًا.
هذا حالي وأنا هنا، لا أتوقّعُ القذائف ولا أشكو الجوع، ولم أفقد كلّ من أعرف، فما بالي بمن هناك؟
مناقشةُ الباقي تحت الإبادة والتجويع والحصار جنون، لا مكان للعقل ولا للمنطق ولا حتى للجنون، يحقّ لأهل القطاع ما لا يحقُّ لغيرهم، تسري القاعدة أيًّا كان الطرف الآخر في المواجهة، سوى بقيّة أهل القطاع، من حقّ الغزيّين أن يملّوا الحرب والموت والإبادة والحصار والتجويع والخذلان، من حقّهم أن يقولوا “كفى” أن يصرخوا في وجه الكلّ، بما في ذلك في وجه المقاومة.
يهمّ أن نذكّر أن نلفت الانتباه أن نشير، لا أن نطلق الأحكام بمظنّة معرفة وتفوّق أخلاقي متوهمين، إذ لا فضل لأحد إلا لهم – مقاومةً وصمودًا وبقاءًا- ولمن ناصرهم، أمّا نحن فالتزامُ الأدبِ في حضرتهم أولى، صامدهم وضاجرهم، كما حقّنا كذلك الانحياز لأحدهما في المعركة وبعدها، وانحياز كاتب هذه السطور للمقاومةِ-فكرًا ومنهجًا وتنظيمات- مطلقٌ ومستمرّ وملتزم، لا في المعركة وحدها، إنّما في كلّ معركة وصولاً لتحرير كامل التراب الفلسطيني.
خلافي السياسي مع حكومة حماس قديم، وطالته تبعات ما جرى في مصر منذ الانقلاب 2013م، وقد لعبت عليه أطراف عدّة مناصرةً وهجومًا منذ 2008م حتى اليوم، ويعرفُ من يعرفني أنني جرّبت الحبس على يد سلطتهم 2008م كما جرّبته هنا، واتّهمتُ من منصّات ونشطاء وكوادر فيها -ومازلتُ- بكلّ تهمةٍ ردًا على موقفي من حكم مرسي، لكنّ هذا (الموقف السياسي، والموقف الشخصي) وألفُ ضعفٍ له، لا يجعلني أفكّر لحظةً واحدة قبل أن أودُّ لو أغزو معهم فأُقتل ثم أحيا فأُقتل ألف ألف مرّةٍ، وما وفّى ذلك من حقّهم علي شيء لا هم ولا القضيّة التي يقاتلون لأجلها.
أما حكم القطاع؛ فلم تتوقّف القيادة السياسية لحماس عن التصريح بعدم تمسّكها بالسلطة، تصريحًا أو موافقةً على مقترحات الوسطاء(بعيدًا عن الموقف من الوساطة والوسطاء)، والتي أعلنت ربّما آخرًا من القاهرة قبل أسابيع بموافقة الحركة على مقترح مصري بتشكيل لجنة الإسناد المجتمعيّ لإدارة القطاع واستلام كافة المهام بما فيها الأمنيّة، بل وجعلت الحركة هي التي تستعجل مصر بإعلان تشكيل لجنة إدارة القطاع اليوم قبل الغد لإنهاء تلكيكة العدوّ ووساخة المحايدين.
هذا عن الحكم، لكن السلاح والمقاومة شأنٌ آخر، ليس من حقّ أحدٍ مطالبتهم بتسليمه أو التخلّي عنه، بل وواجبهم مواجهة من يفعل كما يواجهون العدوّ، ما دام الاحتلال قائمًا وجرائمه مستمرّة وتخاذل العالم أو شراكته باقية.
والتذكيرُ بحال الضفّة تحت حكم خونة أوسلو وعجوزهم الصهيوني “عبّاس” وأجهزته العميلة لا يخلو من وجاهة، وإن كان لا يخفى على أحد، ومصيره يكادُ يُرى، سابقًا لوكيله في الهزيمة، تمامًا كما سبقه في التمشيط والاغتيال والملاحقة والتسليم، ومحاولة إعادة إنتاج ذات السلطة في غزّة (هي أو جيش لحد، أيّهما أقرب) وهمٌ يتجاهل معطيات الواقع، على الأرض وفي الجوار كما في طبيعة اللحظة.
…
ليس من حقّ حماس أن تحدد مصير الشعب الفلسطيني كلّه، ربّما يكون صحيحًا
لكن هل ذلك الحقّ ممنوحٌ للمئات الذين خرجوا ؟ قطعًا لا
للأغلبيّة، للقوّة، للمقاومة. لأيّ شيء يستندُ أولئك ؟
لو أنّها لحقّ الناس في الشكوى، فلا نقاش في ذلك
أما لحقّ العدو وكلبه المطيع -عبّاس- وإمارات الشرّ في تشكيلِ هاواي الشرق الذي بشّر به ترامب، منزوع المقاومة، منزوع الشعب، ومنزوع الهويّة، فهذه خلافاتٌ ستحسمها كالعادة معطياتُ الأرض، وسأنحازُ للمقاومةِ فيها حتمًا، لا في مواجهة العدوّ وحده.