آراء
أرى المدينة الأبية، المملكة العصية، الحصن المنيع، والسد العنيد، عروس الدنيا، ومعجزة البحر، ومحبوبة السماء، تلك الأرض الصخرة، الحجرة العثرة، التي عليها خرت جيوش، وقُبرت غزاة، وانهزم أباطرة، وهي تصنع من طينها بندقية، رصاصها الحديد المترسب في أديم الأرض، من خليط الماء والتراب وعرق الفلاحين، وتصحو كل يوم تنظر في المدى باحثة عن تاريخ جديد تكتبه، أو تاريخ تليدٍ تؤكده، أو مستقبل وليدٍ تريد أن تؤرخه، وهي الخارجة عن انتظام الفلك، وعن تقليديات الكون، وعن سياقات الأمور ومعطياتها، فهي وحدها وحدها، تحب أن تقرر كل شيء، وتذود عن كل شيء وحدها.
المدينة الشريدة الطريدة، الجريحة المتقيّحة، الشهيدة المحتسبة، العابدة الصابرة، المبتلاة الذاكرة، التي لا شبر فيها يخلو من دماء، ولا ذرة تراب تفتقر إلى شرف، ولا قطرة ماء بحر ليس فيها من ملوحة الصيادين، وجلد البحارين، وهي كلها مدينة الطوفان ومنبعه ومجراه ومصبه، كل سيل منها يدور بالدنيا وإليها يعود، وكل شيء في الدنيا قد يدور بالدنيا وإليها لا يرجع، أصل الحكايات، البدايات، والنهايات، كأنما خلقها الله مع الكرامة، كما خلق حواء من آدم، فخلقت “العزة” من ضلع غزة، وسميت غزة من جذرها، كأن النقطة طافت ودارت ثم استقرت أعلى العين بعدما أدركت أن وزنها هباء في كل مكان، هواء لا يحس به، صفر لا يضيف ولا يضاف، إلا في هذا الموقع بالتحديد، فإنه الذي عرفت عنده نفسها!
مدينة عريقة، وغريقة، محاطة بجوار لا أعلم إلى أي ملة ينتمون، وبأي دين يؤمنون، وأي مذهب يعتقدون، وأي لسان يتحدثون، من النبي الذي بعث فيهم، ومن الإله الذي يعبدونه، ومن النسل الذين أتوا امتدادا له؟ أتعجب ولا أجد الجواب، كأنما غزة سقطت وسط مساحة سرية من الفضاء على سطح الأرض، لأن سكانها ليسوا بشرا عاديين، ولا أبطالا خارقين، هم شيء مسخ مشوه، لا قيمة ولا وزن ولا فهم، يتناقلون الحروف الأبجدية نفسها، يقرؤونها، يطالعون أشعارها وتراثها، كأنهم -لا قدر الله- عرب، ولكن الحمد لله أنهم مجهولون، بلا هوية ولا كلمة ولا سيادة.
أرى دولا غربية ترفع صوتها بما يحدث، تهاجم أفعال الاحتلال الإسرائيلي في طاولة الدوحة وفي فاجعة غزة، ولو كانت باليد الأخرى تدافع تلك الدول عن “إسرائيل”، فإن ثمة ما جرؤت على تمثيله، وأسمع كذلك عن دول عربية، أطالعهم في كتب التاريخ، لكني لا أقدر على تتبع صفاتهم ولا رؤيتهم، وكل أملي أن أراهم، لكني لا أجد من يشبههم في المعاصرين، ليست فيهم تلك الصفات التي قرأتها عن النخوة والمروءة والرجولة والشهامة والجيرة والغيرة والحمية، كأنهم امتثلوا إلى كفار قريش، وأخذوا منهم كفرهم، ثم أبقوا على محاسن زمن الجاهلية دون أن يقربوها، فهم ورثة الجحيم.
أقول لو أن العرب كانوا هناك فقط؟ تخيل أن تكون غزة محاطة بأمة عربية، أجل، كتلك التي نقرأ عنها في الكتب، ويتحدثون عنها في السيَر، أتخيل كم كان الاحتلال سيندم على اليوم الذي ولدته فيه أمه واحتل مدينة عربية محاطة بدول عربية شرسة، ويقول يالها من حرب لم يكن يجب أن تبدأ أصلا، فإن العرب سيغرقونني، وسيذبحوني جزاءً على ما فعلته بمدينتهم، درة تاجهم وغرة رؤوسهم.
أسرح بخيالي فقط، أتخيل ماذا لو لم ينقرض العرب والمسلمون؟ كم كان ليبقى عالما يرتعد من ذكر الأمتين، وترتعد فرائصه من شدة انتقام أهل العروبة والإسلام لبنيهم، أعرف أنه حلم خيالي ساذج، وليسوا موجودين الآن، ولكن أتخيل فقط يا أخي أتخيل، ما الذي كانت ستحتاج إليه غزة في هذا الوقت تحديدا؟ ماذا كان ستفعل، وكيف كانت ستنجو وتنتصر، لو أن حولها عربًا، لكن “العين بصيرة والإيد قصيرة”، تعرف أنهم محبوسون في كتب التاريخ فقط.
ينفعل الكولومبي والجنوبي والآيرلندي والإسباني، جميعًا لأجل غزة وفلسطين، وأقول آه لو كان هؤلاء حولها، آه لو كانت خريطتها تتكئ على مدينة كيب تاون جنوبا، لا العريش ومعبر رفح؟ آه لو كان يجري لغزة ما يجري وفي العامل مسلمون وعرب، قسما لما كان جرى أصلا، فأنا بحسب ما قرأت في كتبهم، عرفت أنهم كانوا قوم حمية وشدة، وأهل قتال وضراوة، وأهل جسارة وإقدام.
آه لو كانت غزة مدينة عربية، حولها عرب، ومغيثوها عرب، وجيرانها مسلمون، آه كم كان سيختلف الأمر لو أنها ولدت بزمن غير الزمن، وآه لو كان هؤلاء الذين تقابلهم غزة صباح مساء من دون أن تعرف هويتهم، ولسانهم يشبه لسانها، آه لو يمكن هؤلاء التخلي عن ذلك الجوار لصالح العرب والمسلمين، كيف كان حال غزة سيصلح لو أنها مدينة عربية في زمن عربي وحولها عرب وأهل إسلام يعرفون كيف يردون الصاع صاعين، وكيف ينتقمون، وكيف يأكلون أكباد أعدائهم نيئة، إذا ما اعتدت خطأً على طرث ثوب امرأة من أهلها!
آه لو كانت غزة تستند إلى دولة عظمى مثل مصر، وقبالتها على الناحية الأخرى دول الخليج والحجاز، وكانت هنا الجزائر وتونس والمغرب وليبيا، وكان هنا السودان واليمن وعُمان، آه لو كانت غزة مدينة عربية حقا، تنتمي إلى ذلك المحيط، وتلك الدول، كيف كان سيُكتب التاريخ، وبماذا كانت ستحس غزة في ذلك الوقت بالتحديد؟ وكم كان حجم الأمان الذي ينتظر غزة إلى أن يفرغ إخوتها من المهمة، ويؤدبوا المعتدين.
آه لو كانت غزة مدينة عربية وإسلامية حقا، لكنها للأسف قطعة مفقودة من التاريخ ساقها القدر إلى زمن تعيشه كاملا وحدها، دون أن تحيا ودون أن تموت، لكنها للأسف مدينة في زحام الأرض، بلا عرب، ولا محيط، ولا خليج، ولا جوار.