سياسة

في ذكراها الرابعة عشر.. الريف في الثورة السورية وما بعد الانتصار

مارس 17, 2025

في ذكراها الرابعة عشر.. الريف في الثورة السورية وما بعد الانتصار

ليس سراً أن حكام سوريا بعد الوحدة مع مصر كانوا من أبناء الريف السوري، وكانوا أبناء فلاحين ووجهاء الفلاحين، ويعتبر باتريك سيل حافظ الأسد أول حاكم سوري من أصول فلاحية أو قروية حكم سوريا لفترة ممتدة، بينما تؤكد المصادر أن الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع المولود في دمشق ينتمي لأسرة قادمة من الريف جنوبي سوريا، وكان والده ناصريا، سكن المدينة أسوة بأبناء جيله من أبناء الريف الذين صعدوا للسلطة والوظيفة في المدينة.


مع صعود البعث السوري صعد أبناء الفلاحين معه في سلم السلطة والحكم والمراكز، كانوا ضباطاً صغار الرتب والأعمار عموماً، ورغم أن هذه الصعود فُسّر لاحقاً على أنه صعود لمكون سوري بعينه إلا أنه بقي في الحقيقة أشبه بسجال بين ضباط الريف القادمين من الشرق السوري، بعد انقلاب جاسم علوان 1963 أو من الجنوب عقب انقلابي الشاعر وحاطوم 1966، ليستقر لاحقاً في شكل حركة تصحيحية جاء بها حافظ الأسد للسلطة، وأسست لحكم ديكتاتور استخدم فيه ورقة مظلومية تهميش الريف اجتماعياً لتثبيت حكمه وإنشاء طبقة مؤيدة من الموظفين المرتبطين بالنظام عن طريق توظيفهم وعن طريق الرشاوى التي يجنونها من وظائفهم، وقيل إن حافظ الأسد قال لباتريك سيل أن تلك الرشاوى كانت نوع من إعادة تقسيم الثروات بين السوريين فيما يبدو انه تصريح مباشر بأن الدولة تقف وراء هذا الاتجاه الممنهج والأرعن من الصراع بين الريف والمدينة في البلاد والذي ربما أوصل سوريا لاحقاً إلى ما هي عليه الآن.


يعيد البعض المشكلة إلى ما بعد الاستقلال، ويزعم المدافعون عن الفترة الذهبية للديمقراطية السورية التي تلت الاستقلال عن فرنسا 1947، أن السلطات السورية وقتها بدأت بتنمية الدولة السورية اقتصادياً بشكل بطيء ومتوازن يراعي خصوصية البلاد، إلى أن قطعت الانقلابات العسكرية، وما حملته من خطط تنموية فرضت من أعلى هرم السلطة السياسية، خطط اقتصادية مبعثها حماس بعثي اشتراكي والمظلومية الريفية واستعجال الضباط الشباب، أدت إلى تدمير البلد اقتصادياً وعرقلة التنمية، كالتأميم الذي ربح به البعث قلوب الفلاحين ولكنه جزَّأ ملكية الأراضي الزراعية إلى ملكيات صغيرة ضئيلة الإنتاج، وتأميم قطاع الصناعة الذي أدى إلى نتائج مشابهة في تدني الإنتاج، وبالمقابل فإننا لا ننفي مسؤولية الدولة السورية ما بعد الانتداب الفرنسي والتي يبدو أن نخبها كانت منعزلة في مدنها ولم تستطع الدولة الوليدة أن تواكب ما يحتاجه الريف من مراقبة وخطط تنمية، وبدت أمنة وغير واعية لعمق التحول الاجتماعي التاريخي الذي بدأ يظهر في الريف، وربما يعود ذلك إلى نظرة نمطية كانت لدى هذه النخب اتجاه الريف السوري موروثة عن أجيال سابقة، فقد لفت نظر عدد من المستشرقين الغربيين في القرن الثامن عشر من الذين زاروا سوريا ما أسموها «نظرة التعالي »على الريف.


 قدمت سياسات البعث الاشتراكية خاصة سياسات الرفاق السابقين على حكم الأسد الأب التنمية للريف، حيث بنت السدود وشقت الطرق وأوصلت الكهرباء للقرى النائية. بل أكثر من ذلك، فقد أممت الأرض للفلاحين بحيث شعر كل فلاح بأنه سيد على أرضه، كل ذلك قطف ثماره حافظ الأسد الذي نُسب إليه ولنظامه كل هذه الإنجازات لاحقاً، وجرى التعتيم على فترة حكم أبناء الريف السابقين له بشكل كامل، لتختصر بأنها فترة انقلابات. وبعد حركته التصحيحية زاد انخراط أبناء الريف في الوظائف العسكرية والأمنية وعاش الريف السوري فترة جرب فيها أبناؤه السلطة والهيمنة، أمر لم يحدث أبداً في أي من مراحل سوريا التاريخية الذي كانت فيه مراكز القوى تتركز في المدن الكبيرة، وهي قاعدة اجتماعية بدت كأنها انقذت النظام، وحملته على أكتافها في الوقت الذي تمردت المدن السورية اجتماعياً وعسكرياً خلال الثمانينات، وبدا الأسد بالاستناد إلى هذه المظلومية ديكتاتورا مستقرا في حكمه بشكل لافت، بعد عقود من عدم الاستقرار السياسي في سوريا.


منذ بداية التسعينات بدت موجة الإصلاحات الاقتصادية في النظام السوري غريبة ومريبة لأبناء الريف، ولكنها لفتت الانتباه مع استمرارها وتوريث الحكم في سوريا للأسد الابن، بالنسبة للسوريين من سكان الريف كانت إجراءات الخصخصة التي بدأها النظام كدبيب وهمس وتحولات غير مفهومة في العاصمة. شيئاً فشيئاً وجدت المجتمعات السورية الريفية نفسها فقيرة ومهمشة ودون أمل، فيما بدا أن الجفاف في بعض المناطق قد قصم ظهر البعير للدرجة التي جعلت الفلاحين يتركون أراضيهم في منطقة الحسكة ويهاجرون نحو مناطق أرياف العاصمة ابتداءً من العام 2008، بالإضافة إلى هجرة عمالة واسعة من هذه المناطق اتجاه لبنان ودول الخليج وتراجع التعليم والخدمات، كما تراجع القطاع الزراعي بشكل كبير، إلى درجة استيراد سوريا للقمح خلال نفس العام من دول أخرى. في تلك السنوات بدا كل شيء في الأرياف السورية يدعو إلى الثورة أو إلى الاشتعال.


وفيما بدا نظام الأسد عاجزا عن إيجاد حلول لمشكلة الريف السوري مع تراجع الزراعة وغلاء الوقود والأسمدة، قرر تجاهل ذلك الواقع وترك الأمور على عواهنها، لذلك كانت تلك القواعد التي صعدت مع البعث وصعد معها البعث هي ذاتها القواعد الاجتماعية التي ثارت ضد ورثة البعث من أبناء البعثيين الذين بدوا غارقين في رفاهية المدن وغير معنيين بمشاكل الريف الملحة، وغير قادرين على تقديم تنمية حقيقية في الريف.


امتدت نقاط التظاهر على جميع أجزاء هذه الأرياف، وكانت مراكز إيواء الجيش الحر والعناصر المنشفة عن جيش النظام، وانطلاق العمليات العسكرية اتجاه مراكز قوات النظام، كما كانت الخزان البشري للفصائل التي دخلت القتال في المدن مع قوات النظام. لاحقاً كانت هذه المجتمعات لقمة سائغة للتنظيمات الجهادية، وبدا أن أشد المجتمعات الريفية فقراً وأقلها تعليماً تتجه لتصبح من حصة تنظيم الدولة مثل أرياف دير الزور والرقة والحسكة فيما بدت أرياف حلب وإدلب الأكثر غنى وتعليماً عصية وصامدة مجتمعياً أمام تمدد التنظيم.


نحتفل اليوم بالثورة السورية في ذكراها الرابعة عشر ويجب أن نستذكر أنها ثورة الريف السوري ليس انتقاصاً من دور المدن السورية في الثورة، بل على العكس نقول ذلك لكي لا يكون هذا التحول الجديد في سوريا مجرد هجمة ريفية اتجاه المدن الكبرى مما سيفاقم المشكلة الاجتماعية والديموغرافية فيها، المراد هو أن تأخذ الحكومة السورية الجديدة معضلة الريف السوري بشكل جدي فتعمل على تنميته اقتصادياً والتركيز على قطاع الزراعة بشكل خاص ولدينا فرصة لزيادة الانتاج الزراعي بالاستفادة من التطور التقني في هذا المجال مما يعزز الوضع الاقتصادي لهذه المجتمعات ويثبتها في قراها ويوقف الانجراف المجتمعي المتمثل بهجرة الأفراد والعائلات اتجاه الحواضر واتجاه دول الجوار واتجاه أوروبا في ما يشبه سفر برلك جديدة تعيد إلى يباب وخراب مشابه لما كان يعيشه هذا الريف من تهميش ما قبل الإصلاحات العثمانية، والتي حاولت زيادة الإنتاج في أواخر الدولة العثمانية. ويخرج الريف بواسطة تنمية هذا القطاع من حالة العشائرية والانفلات الأمني كذلك. فوجود انتعاش اقتصادي وإنتاج زراعي وفرص عمل في هذا القطاع سوف تجعل المجتمعات هادئة مستكينة، وإلا سوف نكون أمام مظلومية جديدة غير معلنة ومدن محاطة ومضغوطة بالعشوائيات الريفية.


لا يبدو الواقع السوري الحالي مشجعاً للافتراض بأن الإدارة السورية الحالية، مهتمة بهذا الريف أو أنها واعية لما تحمله هذه المجتمعات من فرص ومن مخاطر، فهي غارقة في ملفات ما بعد الأسد وتركته من الخراب المجتمعي والطائفي والقضائي، عدا عن انتقال من أزاحوا الأسد إلى المدن السورية الكبرى مما يخلق انطباعاً بأن الريف عاد إلى دائرة نسيان جديدة لا يمكن التكهن بنتائجها.

شارك

مقالات ذات صلة