ليس في التاريخ الإسلامي السياسي شخصية أثارت جدلًا عابرًا للعصور كالذي أثارته شخصية معاوية بن أبي سفيان، إنه ليس مجرد رجلٍ من رجال تلم المرحلة، بل هو امتحان حيّ لموقفنا من الجيل الأول برمته، وأعني أولئك الذين حملوا عباءة الصحبة النبوية، فكانوا في نظر الكثيرين فوق النقد، مهما بلغت قسوة التجربة، وعمق التحوّل، وخطورة القرار والمصير. فمعاوية، ابن قريش، وملك العرب الأول والأكبر، يقف أمامنا كمرآة لأسئلة لا تنتفي ونقول:
هل نراه بعيون التاريخ أم بعيون العقيدة التي نؤمن بها؟ هل نحاكمه بمنطق الدولة والسياسة أم بمنطق الدعوة والحكمة؟ عن أيّ معاوية نتحدث عنه؟! رجل الدولة المحنّك السياسي الخطير، أم الصحابي الذي اجتهد فأصاب أو اجتهد فأخطأ؟
فالذين كتبوا عن معاوية انقسموا لأقسام عدة، ما بين أقلامٍ هاجمته بضراوة، وتراه المؤسس الأول لملامح الحكم الوراثي الجبري والقهري في الإسلام، وتحمّله وزر انحراف الخلافة ومنظومة الحكم عن جوهرها الشوروي. وآخرون كتبوا عنه مدافعين ومبجلين، فيرونه الرجل الذي جنّب الأمة ويلات الفرقة بعد فتنة دامية، فحكم أربعين عامًا بالحلم والسياسة والدهاء والذكاء، لا بالسيف والدم.
وفي محاضراتي، التي تناولت فكر معاوية الإداري والسياسي على قناتي باليوتيوب، حاولت أن أقرأ معاوية كما هو ، فوجدته رجل دولة بامتياز، أدرك أنّ بقاء الأمة يتطلّب حُكمًا يوازن بين الحلم والهيبة، وبين القوة واللين ، فقد صاغ أولى ملامح “الملكية السياسية ” في الإسلام بعد أن كانت الخلافة هي البارزة ، وانتقل بها من مجتمع المدينة البسيط إلى مؤسسة الحكم الملكي الشاملة، فهو أي معاوية قد فهم طبيعة النفوس، وأتقن فن صناعة الولاءات، وبنى دولة لا تعتمد فقط على الدين كمحرك وحيد للسلوك، بل على أدوات السلطة ومهارات الإدارة وفن التأثير والنفوذ .
ومع ذلك، يبقى معاوية سؤالًا كبيرًا، يختبر اجابتنا عليه موقفنا وقدرتنا على التعامل مع الصحابة بعيدًا عن اعتقاد العصمة فيهم، وأيضاً دون أن نسقط في فخ الجحود أو الإفراط. فهل نقده تجاوزٌ على مقام الصحبة، أم ضرورة لفهم التاريخ من دون أوهام؟ وهل إنصافه دفاع عن تجربة ملك منفرد ومستبد، أم عن حُسن اجتهاد رجلٍ أراد أن يحفظ وحدة الأمة بطريقته؟
إن الحديث عن معاوية فعلياً هو حديث عن العرب وكينونتهم في الملكية كونهم ملوكًا، وفي القبلية كونهم قبائل، وعن دولةٍ تُدار بالعقل والمصلحة قبل العاطفة الجياشة، وعن زعيم أدرك أن السياسة بحرٌ لا ينجو فيه من لا يجيد التجديف بمجدافين، الهيبة والحلم والمبدأ والأداة، النتيجة والوسيلة.