سياسة

الصوفية الثورية، بين الميت والمميت

مارس 14, 2025

الصوفية الثورية، بين الميت والمميت

ينظر مالك بن نبي الفليسوف الجزائري لمشاكل العالم العربي عموماً، من خلال ما يسميه “عالم الأفكار” المصطلح الذي ابتدعه وأسس عليه فلسفته، معتبراً أن الأفكار تتحول إلى واقع، وأن لكل أمة أو شعب عالم أفكار خاص بها أو به، وهو ما بنى عليه لاحقاً النتيجة التي تقول إن قوى الاستعمار الغربية عبر أدواتها الثقافية قامت بالعبث بأفكار “عالم أفكار” الأمة العربية أو الإسلامية، وعموم الشعوب المُستعمرة الأخرى، فيما يبدو أنه البديل الذي استعاضت به عن المواجهة السياسية والعسكرية المباشرة.


الدروشة السياسية والثورية


يعتقد الفليسوف الجزائري أن اللعبة السياسية هي مجرد عراضة لا داعي لها، بل يذهب أبعد من ذلك ليقرر أن السياسة هي في الواجب، وليس بالمطالبة بالحقوق السياسية، والتي يرى أنها “شعارات براقة”، ويعتقد أن هذه اللعبة تُنشئ ما أطلق عليه “الدروشة السياسية”، فكما تبيع الطرق الصوفية التمائم والحُروز، تبيع الأحزاب والتجمعات السياسية أوراق التصويت ودعايات الانتخابات، ومما يزيد الطين بلّة أن الطبيعة البشرية تقع فريسة سهلة لفخ براق وهو شعار المطالبة بالحقوق، بينما تتجنب القيام بالواجبات.


تبدو أفكار بن نبي غير مألوفة تارة وغير ممكنة التطبيق تارة أخرى، وفي سياق سوري أصبحت فيه الثورة، إن أجازنا ثوارها، طريقة صوفية سياسية تبيع تمائم الحرية والديموقراطية والدولة المدنية عند البعض، أو وعود العودة للتراث وتحكيم الشريعة عند جزء آخر يبدو قوياً ومهيمناً في الشارع السوري.


تبدو جزئية أن الواجب هو فعلاً السياسة وليست المطالبة بالحقوق، كحق الانتخاب أو الترشح للانتخابات. ومن واجبات المرحلة الحالية إطلاق ملف العدالة الانتقالية أو إطلاق حوار سوري واسع واستثنائي، بعد أن خرجت الثورة من حالة الوجد الصوفي الثوري بعد سقوط نظام الأسد نهاية العام المنصرم. لكن الصف الثوري وجد نفسه غير قادر على التعامل مع الواقع الجديد بأماني الأربع عشر سنة الماضية بما تحمله من رموز ومشاعر جياشة، دون نظر للواقع الحالي الذي يمكن وصفه بأنه معقد وصعب، فيلجأ الثوريون، عوضا عن الاشتباك في الواقع لسد هوّة عمرها من عمر نظام الأسد، إلى التعالي عليه والاختباء مجدداً وراء تمائم الثورة وأولياء العمل الثوري. وينتج عن ذلك تجاهل الأسئلة الصعبة بخصوص محاسبة كبار المسؤولين وتضميد جراح المجتمع السوري ولملمة الفوضى وتعويض المتضررين في هذه السنون الصعبة. ويعيد ذلك الثورة المنتصرة، أو المنخرطين فيها، بصورة أدق، إلى المربع الأول، إذ لا يتمكنون من التعاطي مع ما يحدث بمفردات جديدة تلائم المرحلة، فيحاكمون الوقائع بالعدسات ذاتها التي استُخدمت أول انطلاق الثورة، وبذات المفردات.


الميت والمميت 


يستعيد مالك بن نبي مرة بعد مرة أثر كل تحول كبير في المنطقة العربية ليعود لاحقاً إلى انعزاله بين جدران التأسيس فربما لو نشر كتبه الأولى بالعربية بدلاً من الفرنسية لكان معروفا ومطروقاً، بحثاً وتمحيصاً، على مدى العقود الماضية، ولربما كان أشد شهرة من سيد قطب وهو الذي تجادل معه عند إصدار الأخير كتابه نحو مجتمع اسلامي حول كلمة “متحضر”، حتى قيل إن الإسلاميين أخذوا سيد قطب وتركوا مالك بن نبي.


أعُيد اكتشاف الفيلسوف الجزائري بعد نجاح الثورة المصرية 2011 بشكل خاص ولاقت أفكاره وفلسفته شيئاً من الرواج وصار اسمه مطروحاً في الأوساط الثقافية وتركز الحديث حول “عالم الأفكار” وخصوصاً الجزئية الخاصة بالفكرة الميتة والفكرة المميتة ،فالأولى أسقطت على فكرة “الإسلام هو الحل” باعتباره فكرة ميتة، ما قد يسبب صدمة لمن يسمع ذلك، خصوصاً من الإسلاميين الذين لم يطلعوا على نتاجه بكلية، فالموت هنا لسبب يراه بن نبي، وهو أن تجليات الإسلام في المجتمع لم تعد موجودة لذلك فأن فكرة أن “الإسلام هو الحل” ليست بالفكرة الحية حالياً، في حين قال إن الديمقراطية والدولة المدنية هي الفكرة المميتة، فالفكرة التي نشأت في سياق أوروبي وتطورت فيه قد تكون سامة وخطيرة لدرجة الموت في “عالم أفكار” آخر غير مصمم على قبول هذه الأفكار.


وإذا كانت جدلية الإسلام مقابل العلمانية رائجة في مصر بعيد ثورة يناير عام 2011، يبدو هذا الجدل غير حاضر بنفس الزخم في الوقت الحالي في سوريا، مما يجعلنا نخشى من مآلات اصطدام الميت بالمميت، خصوصاً بعد أربعة عشر عاماً من قتال وحرب أنهكت الشعب السوري، بحيث أصبح الحديث عن شكل الدولة ما إذا كانت إسلامية أم علمانية، ترف يمكن التخلي عنه أو تأجيله على الأقل لصالح التفكير بإعادة الإعمار كلياً أو جزئياً، أو تأمين أبسط أساسيات الحياة للمواطن السوري، ما يخلق انطباعا عاما بأن النخب السورية مستعدة للتخلي طواعية عن أفكارها الخاصة بخصوص مستقبل سوريا في سبيل إنعاش البلاد بالحد الذي يسمح بالمداولة السياسية، إضافة إلى ذلك تبدو التركيبة الطائفية في سوريا مانعة من أن يكون هناك حوار حقيقي ومثمر اتجاه الفكرتين، فالاستقطاب الذي ترسخ خلال سنوات الثورة جعل من الصعوبة بمكان أن يؤخذ النقاش حولهما بنوع من الانفتاح والتقبل، بل يبدو الفريقان اللذين يتبنيان الفكرتين في أشد الأوقات تصلباً وتمترساً خلف البنى الاجتماعية السابقة على الدولة كالعشيرة والطائفة وقد يبدو أن الحوار الذي بدأ في دمشق بحاجة لحوارات أخرى مطولة، وظروف سياسية واقتصادية تساعد على الحوار أصلاً، فالمزاج السوري العام حالياً يبدو خارج “عالم الأفكار”، بل غارق بالواقع الاقتصادي والأمني وما فيه من مجريات ومتغيرات سريعة، يومية ومعيشية بالدرجة الأولى.


تحيلنا أفكار بن نبي للوهلة الأولى لشعور الخوف من تبنيها على مستوى الفرد والمجتمع، لصعوبة التخلي عما جاءتنا به الحضارة الغربية من أفكار وقيم، على فرض أنها عبثت به عبر أدواتها الاستعمارية بقيمنا الأصيلة أولاً، وحياتنا الحالية تالياً، ما يُظهر أن هذا “العبث” قد أصبح الحياة المعاشة في الوقت الراهن، ولا يمكن التخلي بسهولة ودون مخاض مؤلم عن كل ما حملته هذه الحضارة إلى المجتمعات المُستعمرة مادياً أو معنوياً.

شارك

مقالات ذات صلة