ما بين أبو مسلم الخراساني والعلويين في الساحل السوري: الشعبوية ومعركة الوهم والسراب
في أواخر العصر الأموي، بزغ نجم أبو مسلم الخراساني كقائد ثوري جمع بين الدهاء السياسي والقدرة على استثارة الجماهير الايرانية، ولم يكن مجرد عسكري محنك، بل خطيبًا بارعًا صاغ خطابًا شعبويًا يلامس مشاعر المظلومين من الفرس، وخصوصًا الموالي الذين رأوا في دولته المنتظرة خلاصًا من التمييز الذي فرضه عليهم النظام الأموي، فرفع شعار “الرضا من آل محمد” دون أن يحدد من هو هذا “الرضا”، مما منحه مساحة واسعة لاستقطاب الساخطين من العرب وغير العرب على حد سواء.
لكن كما هو حال كل الحركات الشعبوية، كان نجاحه مؤقتًا، فبعد أن أسقط الدولة الأموية بحد السيف ووعود العدل، وجد نفسه مجرد أداة في يد الدولة العباسية الصاعدة، ولأن الشعبوي حين يفقد قيمته السياسية يصبح عبئًا، لم يتردد أبو جعفر المنصور في الإطاحة به بدم بارد، ليتحول من زعيم جماهيري إلى ضحية لخديعة كبرى صنعها بيديه.
هذه القصة ليست مجرد فصل في تاريخ الإسلام السياسي، بل نموذج متكرر للحركات الشعبوية التي تنشأ على أكتاف الجماهير الساخطة، وتتحول إلى أدوات تخدم مصالح القوى الحقيقية قبل أن يتم التخلص منها.
فالشعبوية ليست تيارًا فكريًا متماسكًا بقدر ما هي تكتيك سياسي عابر مؤقت، فيتغذى على الخطاب العاطفي، ويستبدل الحلول الواقعية بالوعود الحالمة، ويقوم الشعبوي بتقسيم المجتمع إلى “نحن” و”هم”، حيث يكون الشعب في مواجهة نخب متهمة بالخيانة، بينما يتم تصوير القائد أو الجماعة الشعبوية كالتجسيد الوحيد للإرادة الشعبية الحقيقية، وهذه الثنائية القاتلة تُعطل التفكير النقدي، وتزرع بذور الصراع داخل المجتمعات، بدلًا من البحث عن حلول عقلانية للمشكلات القائمة.
ونحن نرى اليوم تصاعد التوترات بين العلويين في الساحل والإدارة السورية نتيجة الضخ الشعوبي الذي تنادي به الطائفة العلوية، مما يهدد بتفاقم الصراع الداخلي. ورغم دورهم المركزي في الدولة سابقا في ظل الأسد، يشعر بعضهم بالاستياء، ما دفعهم إلى التمرد ضد السلطة، وهذا الانقسام ينذر بمخاطر كبرى، أبرزها تفكك النسيج الوطني السوري وزيادة التدخلات الخارجية الطامعة في هدم الدولة السورية الفتية في مهدها.
وإذا عدنا إلى التاريخ العربي القديم مرة أخرى، سنجد أن هذه الظاهرة لم تكن بدعا من الظواهر، فحركات مثل الزنج والقرامطة لم تختلف كثيرًا عن حركات اليوم، إذ قدمت نفسها كصوت المظلومين، ورفعت شعارات برّاقة، لكنها افتقدت رؤية سياسية ناضجة، فتحولت إلى مشاريع دموية أحرقت الأخضر واليابس، وانهارت تحت وطأة تناقضاتها الداخلية.
وفي عالمنا العربي الحديث، نرى تكرار الدائرة ذاتها، إذ شهدنا صعود زعامات شعبوية استندت إلى العداء للآخر، سواء كان الآخر داخليًا أم خارجيًا، فتحولت هذه الزعامات من قوى “ثورية” إلى أنظمة شعبوية فئوية، ترفع شعارات التغيير، لكنها لا تحتمل قبول الواقع والتعايش، وتُحكم قبضتها عبر استثارة العواطف القومية أو الدينية، متجاهلة تمامًا بناء مؤسسات حقيقية تُرسّخ الاستقرار والتنمية.
المشكلة الأخطر في الحركات الشعبوية أنها تُغيّب الحلول الفعلية عن عقلها ومنهجها، وتركّز على إشعال المشاعر بدل إصلاح الواقع، ونجدها تسعى إلى حرق المراحل عبر تقديم وعود حالمة لأتباعها، لكنها سرعان ما تصطدم بجدار الحقائق الصلبة، فتتحول من قوة تغيير إلى سبب جديد للأزمات. إذ لا يمكن بناء دول قوية بالخطابات الجوفاء، ولا يمكن تحقيق العدالة عبر تقسيم المجتمعات إلى معسكرين متناحرين.
التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يرسل إلينا إشارات متكررة، لمن أراد أن يعتبر، فلم تكن أزمات العرب يومًا مجرد نتيجة لمؤامرات خارجية أبداَ، بل لعبت الشعارات الشعبوية دورًا خطيرًا في حرف البوصلة، واستجلاب القوى العالمية الشريرة للتدخل في مقدرات الشعوب العربية ومصائرها. لهذا، فإن مواجهة الشعبوية لا تكون فقط بتحليل أخطائها، بل ببناء مجتمعات واعية تدرك أن الحلول العميقة لا تأتي عبر شعارات المظلومية والفئوية، بل عبر بناء مؤسسات قوية، وقيم ديمقراطية، وعقل سياسي قادر على التمييز بين سراب الشعبوية وحقيقة بناء الدولة الحديثة.