سياسة
ربما هي “وصفة” تصلح لإعداد طبخة ما، أو على أقصى التقديرات، منافسة تجارية لشراء أرض فضاء يتصارع عليها عدة مستثمرين، لبناء بيت متعدد الطوابق.. لكن ما علاقة هذا بالسياسة؟ وكيف لسياسي أن يخلط بين المطبخ وتعامله مع طنجرة الأرز، وبين التعامل مع مليوني إنسان بينهم ٤٠ ألف مسلح خاضوا معركة عاتية دامت ١٥ شهرًا تحت مئات أطنان القذائف والمتفجرات والصواريخ؟!
عادةً، لا يقع السياسي في هذا الخطأ، لكن ترمب ليس سياسيًا، وهو يقول ذلك بفخر: “أنا لست سياسيًا، ولم أكن يومًا جزءًا من دوائرهم، أنا قادم من عالم الأعمال، حيث تكون الصفقات حقيقية والنتائج ملموسة”، ومع ذلك تنطبق عليه أحكام السياسة ومفاهيمها، وإن لم يفهمها!
عام 1987 كتب ترمب كتابًا بعنوان “فن الصفقة – The Art of The Deal” يتحدث فيه بمنطق اقتصادي، عن التجارة والصفقات.
المثير أن رئيس الولايات المتحدة يخلط تمامًا بين الأمرين، بين عالم التجارة وعالم السياسة، فببعض التدقيق في الكتاب، هو يكرر ما كتبه علنًا وبشكل مفضوح، للدرجة التي تجعل قارئ الكتاب يتعجب وهو يتابع وجه ترمب الجامد الخالي من التعبيرات بينما يمارس ألاعيبه المسيسة التي تحدث عنها في كتابه.
“الصفقة شكل فني، والإثارة من الصفقات ليست من التربح المادي، وإنما التشويق من العملية نفسها”
وبما يتسق مع “الهالة” التي يحاول أن يضع نفسه داخلها طوال الوقت، الغاضب جدًا، القوي جدًا، غير المألوف جدًا، كتب ترمب في الأيام التي سبقت وصوله إلى البيت الأبيض: “الجحيم سيُفتح في المنطقة إذا لم يُفرج عن الرهائن الإسرائيليين”. اعتُبر حينها التصريح تهديدًا لحماس، ولكن على الأرجح، كما أثبتت الأيام التالية، فهو كان موجهًا لنتنياهو شخصيًا، وهو ما تُرجم فعلًا لتنازلات إسرائيلية، من بينها وقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة منذ المرحلة الأولى.
هالة المنتصر التي أحاط بها ترمب نفسه، أغرته للعب المزيد، فعمد إلى جعبته “الشفافة” واستل منها أول النقاط التي أدرجها في كتابه: “أحد الأساليب التي أستخدمها هو أن أطلب أكثر بكثير مما أتوقع الحصول عليه، لأنك إن بدأت بطلب معقول، ستنتهي بشيء أقل”.
ترمب حاول تطبيق هذا سريعًا بداية من زيارة نتنياهو التي تحدث فيها عن “سيطرة أمريكية على قطاع غزة” و”تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة ونقلهم لدول أخرى”. هي تصريحات جريئة بلا شك، وستدفع بالمنطقة نحو الغليان، لكن ينقص تقديرها شيء واحد، أن ترمب لا يخاطب في هذه الحالة دولة تخشى على استقرارها أو نظام حُكم يخشى سقوطه، هو يخاطب شعبًا خرج من إبادة جماعية، وجماعات مسلحة رفعت السلاح على أعتى جيوش الأرض قرابة العام ونصف العام، فما الذي لديهم ليخسروه!
بعد الصدمة الأولى التي هندسها إثر تصريحاته، تعمد ترمب تكرارها يوميًا مرة تلو المرة، التهجير تلو التهجير، ثم استخدم إحدى النقاط الواردة في كتابه: “لن تصل إلى صفقة رائعة إذا كنت متلهفًا لها. يجب أن يشعر الطرف الآخر أنك مرتاح تمامًا سواء نجحت المفاوضات أو فشلت”. فبعد تلهفه إلى صفقة تبادل تعطيه انتصارًا سريعًا، حتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض، تحدث ترمب في مؤتمر صحفي أنه لا يضمن صمود وقف إطلاق النار في غزة، ولا يضمن الوصول إلى المرحلة الثانية من المفاوضات.
اقلب الطاولة!
ومع تهديد حماس بإيقاف تبادل الأسرى ما لم تنفذ إسرائيل الشق الإنساني من الاتفاق، أخرج ترمب شيئًا آخر من جعبته، كان قد نصح به “المستثمرين”: “كن مفاجئًا. اقلب الطاولة إن لزم الأمر. إذا كنت في موقف ضعيف، فاجعل خصمك يعتقد أنك على استعداد لتدمير الصفقة تمامًا”. قال ترمب حينها إن حماس إذا لم تفرج عن جميع الأسرى يوم السبت، ستفتح على نفسها أبواب الجحيم. لم تفرج حماس بالتأكيد عن جميع الأسرى، لكنها أفرجت عن الـ٣ الذين كان من المفترض أن يخرجوا طبقًا لاتفاق وقف إطلاق النار، وهكذا، لجأ ترمب دومًا إلى المبالغة في رد الفعل، واستخدام الصدمة والتصعيد كحل تفاوضي مع كل حدث في الاتجاه الآخر.
قد يبدو من هذا الكلام أن تحركات الرئيس صاحب هالة “الغاضب جدًا” تنجح دومًا، لكن على العكس، حتى التجار يفشلون أحيانا. ففي فترته الأولى حاول ترمب أن يتوصل لاتفاق لنزع السلاح النووي من كوريا الشمالية، وفشل في تحقيق ذلك، رغم سفره ومقابلته التاريخية مع كيم جونغ أون. وفشل فشلًا ذريعًا في الملف الأهم، وهو “صفقة القرن”، التي لم يتبق منها غير اسمها حاليًا، للتدليل على شر مطلق كان مرادًا للمنطقة، لكنه لم يتحقق رغم الوعود والتهديدات.
مشروع “الريفييرا الغزي” سيكون على طريق الفشل كذلك، أو ربما هو مجرد رفع لسقف الشر، حتى يتخوف الجميع، ويقبلوا بشرٍ أقل، وهذا الشر الأقل هو ما كان يريده منذ البداية.
ولعل أسامة حمدان، كان موفَّقا في رده حين علق على هذا الشر قائلاً: “اللي بده يجي يحل محل إسرائيل، سنتعامل معه كإسرائيل. ببساطة أي حد يشتغل بالوكالة عن إسرائيل، لازم يتحمل تبعات كونه وكيل إسرائيل، هذا أمر منهي وغير قابل للنقاش”.