تأملات

تقصّي الأثر في دمشق

مارس 6, 2025

تقصّي الأثر في دمشق

العائدون إلى دمشق هذه الأيام يبدؤون رحلتهم بوصفهم قصّاصي أثر لذكرياتهم، التي تركوها خلفهم، قبل سنوات، يبحثون عن مطعم، سبق أن أكلوا فيه الطعام يوماً، أو مقهى شربوا فيه كأساً من الشاي، رغبة في التأكد أن تلك الأمكنة لم تنكرهم، أو تنسهم، لا تزال تعرفهم!

لقصَّاصي الأثر في الذاكرة الفردية والجمعية حضورٌ كشفيّ، كونهم باحثي أدلة جنائية بالمفهوم العلمي، هدفهم أن يجدوا الضائع: إنساناً أو حيواناً في البوادي، أو قد يساعدوا، السلطات، أو طُلاب الحق باكتشاف مجرم عبر متابعة آثار أقدامه على الأرض.

سيُوقفك بشرٌ آخرون يبحثون عن عناوين محددة: عيادات أطباء، دوائر حكومية، مطاعم، مقاه. الإجابة في دمشق تدخل في باب الفروض، لا يمكنك أن تقول: لست من هنا! يجب أن تساعد، لا عذر لك. من سألكَ؛ رأى فيك ذلك المشرقيّ الذي وصل إلى الحقيقة الكاملة، ولم يكتف بنصفها عبر: لا أعرف! هذا العشم لا يمكنك أن ترده ، قد تضطر إلى أن تمشي إلى مكان لا تعرفه،

في دمشق يمكن أن يدل شخص لا يعرف العنوان شخصاً آخر لا يعرفه؟ ستقول له: سؤالك بجانب فندق….: يقول لك لا أعرف القراءة! لن تقول: شاب ولا يعرف القراءة، هذا سؤال صعب في بلد خارج من الحرب، فيه أكثر من مليون طفل وشاب متسرب من المدارس!

لا لوحات تدل على الأزقة في دمشق أو أرقام، لوحاتٌ قديمة ذهبت خطوطها، أو فُقدت، سألتُ أحد الدمشقيين؛ فردّ مبتمساً: لا نريد أن نتحول إلى أوربا وأرقامها! الأرقام تميت الأرواح، لا نريد أن نكون بلا أرواح! السؤال عن العنوان طريقة حياة، يفتح باباً للتواصل الاجتماعي كي يشعر الشخص بالآخر، ويتعاون معه ويساعده أو يفتح معه عملاً!

لا جدوى من دعوة من يسألك عن عنوان للبحث عنه في “غوغل” بصفته قصاص أثر معاصر، فالبلد غير مدرجة بدقة عليه، اكتفى العاملون فيه بصور ومخططات عبر الأقمار الصناعية تفتقد للدقة على الأرض.

تحولت عاصمة السوريين إلى حضن أم: حياة وعمل وملجأ… بعد أن كانت عاصمة للحكومة فحسب: دوائر رسمية ومشاف وفروع مخابرات!

ها هي أمٌّ سورية، تسأل عن ساحات يمكن أن تعلق عليها صور ابنها المفقود. رافقتُها إلى أماكن اللوحات القريبة ولصقتُ معها صور ابنها. عند إحدى الساحات وجدتُ شخصاً قد عثر على صورته، كان يبحث عن نفسه بين الصور، في دمشق وحدها تجد ضائعاً يبحث عن ضائع!

الدمشقيون يحاولون متأخّرين تغيير سردية أُشِيعَتْ عنهم؛ أنهم لا يمكن أن يدلّوا أحداً على العنوان الصحيح. قيل في تفسير هذ السردية، أنها متوارثة من أيام الفرنسيين والعثمانيين حين كان يأتي العسس للبحث عن شخص، وشجعت على بقائها أنظمة القمع والمخابرات بعد استقلال سوريا. والهدف منها أن يكون لديهم فسحة ليرسلوا “طارشاً” يخبر الشخص المبحوث عنه، ليتخفى قبل أن يصل السائل! هذا تفسيرٌ نبيل. لكن هناك تفسير لئيم يرى أن من يدلك على عنوان خاطئ في دمشق هدفه ألا تصل إلى المكان الصحيح وتبقى ضائعاً، يدخل عاشق لتفسير السردي بيقول: ما أجمل الضياع في أزقتها!

المتبرعون بتوصيلك إلى عناوين يتواجدون في معظم المدن المشرقية ، حين كنت في طنجة أبحث عن قبر ابن بطوطة، وجدت حمامة زاجلة على شكل طفل، أخذني عبر أزقة ضيقة جداً إلى قبره، سلمتُ عليه وقلت له:  يا بن بطوطة كنت دليلنا عبر رحلتك الشهيرة وكتبك وبتنا نحتاج إلى قصاص أثر، كي نجد قبرك!

عذبتني هذه الـ دمشق ، كأنَّ حاراتها وأزقتها كانت تجلس في رأسي كل هذه السنوات، وانتفضت دفعة واحدة لأتذكر تفاصيلها كلها، كأنني لم أغب عنها. دمشق التي تحبُّ الغائبين لم تتغير بما يكفي، اكتسبتْ أبنيتها طبقة من اللون الرمادي، يسمونه كثيرون إهمالاً حكومياً، وأظنه لباس حداد، ذرفته الشام على الغائبين.

وجدتُ رجلاً مسناً يشبهني، يمشي بهدوء في طريق كأنه لا يريد أن يوقظ الخطوات، سألته عما يفعل: قال: كنا نمر من هنا! نمشي ساعة أو أقل أو أكثر، وأوصلها إلى “السرفيس” الذي يوصلها إلى أهلها. قلت له: أين هي؟

قال: وجدتْ حبيبتي طريقاً أقل شوكاً. لكن اطمئن، درّبتُها على نزع الشوك عن طريقها، فصارت تحب أن تنزع شوكها بيدها! حاولتُ أن أزرع طريقها بالورود، لكنها رفضت، تريد أن تزرع ورودها الخاصة قالت لي: ورودك يا حبيبي غير ورودي!

في رحلتي لتقصي أثر ذكرياتي الدمشقية، ثمة صندوق، على بعد خطوات من مدخل قلعة دمشق الخارجي على اليسار، يختلف عن صندوق أغنية المطربة أصالة. سبق أن اشتريتُ عبر هذا الصندوق حقيبة جلدية، قبل أن أغادر دمشق، تقوم عملية الشراء على ثقة ببائع الشباك، ثم يرسل لك ما تتفقان على شرائه، عبر حَبل، فوق نهر بردى الذي جفت مياهه. الصندوق لا يزال يقاوم عوامل الطقس والغياب، لكن الشباك صار مهجوراً، ربما أخذت البائع الهجرة، أو اختفى في أحد معتقلات المخابرات، أو افتقدته قذيفة طائشة.

المدن لا تفتح قلبها لك، إنْ لم تصبح قصاص أثر، بقدميك، وإنْ أردتَ أن تحبَّ مدينة؛ فامتهن قصاصة الأثر، كي تبني ذكريات معها. المدن لا تعطي أسرارها إلا لمن لامستْ قدماه شوارعها، ونهل من الطاقة الحيوية لترابها.

اختفى في دمشق، مؤخراً، قصاصو أثر السوريين: المخبرون والمخابرات. ذهب الذين كانوا يعيشون في الحيطان على شكل أذنيْن أو أكثر. لستُ متأكداً، لكل سلطة عسسها، المهم بالنسبة لنا نحن مواطنو “باب الله”، ألا يتدخل أحدٌ في تفاصيل يومياتنا.

مقاهي دمشق اليوم، ندوة مفتوحة، يحاول السوريون بعد انتصار ثورتهم، أن يقتفوا أثر آبائهم في خمسينيات القرن الماضي، يوم كانوا يناقشون مستقبل بلدهم.

سوريو ما بعد انتصار الثورة، ينظرون إلى جبل قاسيون، تتوقف عيونهم عند قصر للرئيس بشبابيك مغلقة، وحراس كثيرين، يشيحون النظر عنه، يشريون الكمون بالليمون، ويتابعون النقاش المتعرج.

 

شارك

مقالات ذات صلة